الجمعة، 31 أغسطس 2012

الأداء عن الصلواتِ أثناء الصلواتِ يضربُ في عُـمـقِ دولةِ المؤسساتِ

لسنا دولـةً حديثةَ الاستقلالِ لننتظر عقوداً عَـلّـنـا نهيكل قطاعات حيوية؛ تشكل معمار الدولة الحديثة، كما لسنا في دولة لا دينية حتى نهتم بقطاعات ونغفل تأهيل قطاعٍ يشكل عصب الأمة، وأي خلل فيه قـادر على زعزعة الاستقرار المجتمعي؛ بل وقادر على تحريف مسار الاهتمام البشري، مِنْ "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا" (الآية 77، سورة القصص) إلى كائنات تعتبر الدنيا دار زهد ومجرد تعبّـد لا ينقطع ليل نهار، في وقتٍ تنقل إلينا الأخبار أن «عيسى عليه السلام مـرّ برجل من بني إسرائيل يتعـبّـد، فقال له: ما تصنع ؟، قال: أتـعـبّـد؛ قال: ومَـن يقوم بك ؟، قال: أخي ؟، قال: أخوك أعبد منك. ونظير هذا أن رفقة من الأشعريين كانــوا في سفر، فلما قَـدِموا قالـوا: ما رأينا يا رسول الله بعدك أفضل من فلان، كان يصوم النهار، فإذا نزلنا قام من الليل حتى نرتحل؛ قال: فمن كان يَـمْـهن له ويكفله ؟، قالـوا: كلنا، قال: كلكم أفضل / أعبد منه» (العِقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي).
أصلُ هذا الكلام موقفان حــزا في نفسي كـثيراً، سببُهما جهلُ الناس في ارتباطٍ بعفويتهم، وسوءُ تدبير القطاع الديني من قِـبلِ وزارة التـوقاف والشؤون الإسلامية، واللااهتمام بركن أساس في دولةٍ أولُ سطور دستورها "المغرب دولة إسلامية".
الموقف الأول، والذي ما وجدتُ له عنوانـاً غير استخلاص الأداء عن الصلاة، صلاة التراويح والعيد أقصدُ. فخلال هذا الشهر الكريم؛ الذي حـلّ وارتحل في انتظار عودته الميمونة، كنتُ أصلي صلاة التراويح كـأيـها الناس في مصلى بجماعة تابـعـة لمدينة أكـاديـر فإذا بفقيهِ المسجد، المعتَمَـد فيه، يستوقف الناس ذات مرة بعد آذان صلاة العشاء وبعدها التراويح، ليحدثهم عن أهمية الصدقة في شهر رمضان، وفضل ذلك على الإنسان الصائم في الدنيا والآخرة.
في البدء اعتبرتُ الأمر موضوعَ درسٍ من دروسه التي يقدمها بعد آذان العشاء بُغيةَ تـجـمّع الناس للصلاة؛ ولأني لا أتقن الأمازيغية؛ إنما أتعارك لفهمها وإن بشكل أعرج، ظل السؤال لدي معلقاً، خاصة لما توقف الفقيهُ والناس أمامي ومن حولي يضربون أياديهم على جيوبهم، سألت مَـنْ بقربي فأخبرني أن الأمر يتعلق بجمع بعض المال لِـمَـنْ يـؤمّ الناسَ في صلاة التراويح، وهو القادم من مدينة بعيدة، خصيصاً للصلاة بـهم، لصوته الحسن الرخيم، ولأفضلية قراءته على قراءة فقيه المسجد الـمُـعـتَـمَد.
في تلك اللحظة، التي يمر فيها مََن تكلفوا جمع التبرعات النقدية بأكياس بلاستيكية، أمام الصفوف ليتصدق من يرغبُ (والحق أن الفعلَ ليس بصورة تشبه الأداء في الطريق السيار؛ بمعنى أنّ من لم يؤدّ لا يصلي. لا، فهو اختياريٌّ تطوعيٌّ، ولو فيه بعض الإحراج). قلتُ في تلك اللحظة، وربما وحدي من جموع الحاضرين في المسجد، مَـنْ حضرني سؤالٌ عريضٌ: أيـصـحّ ذلك في دولة المؤسسات ؟؟.
وقبل شرح لماذا السؤال وَجَبَ التنبيهُ إلى أنّ مَـنْ تُجـمَـعُ لأجله النقود هو الإمام الوافد، لا فقيه المسجد، بتصريـح مَنْ سألتُ، بل ومن خلال ما قاله فقيهُ المسجد نفسُهُ، ومَـنْ تلاه حديثاً متحدِّثـاً بلكنة عربية فصيحة عبر مكبر الصوت، ليُفهِمَ الناسَ أن الإمام مجردُ طالبٍ، ما يزال يدرس، وإنه قـدِم من مدينة بعيدة خصيصاً لأجل الصلاة بالناس، وما يتبع ذلك من كلام، هو أشبه بالذين يقفون عند أبواب المساجد بـلَـوْحـاتٍ تُرسَمُ فيها صوامــعُ وتُسَطر عليها آياتٌ، لا يدري الناس أهي في حُـكـم ما سيكون فعلاً، أم إنها حيلةٌ من الـحِـيَل تستقي من أفكار ميكيافيلي قاعدتها.
وَجَبَ التنبيه أيضا أن الفعلَ تكرر مرتين خلال شهر الصيام، عند صلاة التراويح، مع الإخبار الـمُسبَقِ في المرة الأولى أن فريقاً سيعبُر ذات صباح بالحوانيت والديار للأمر نفسِهِ، كما أنه الفعلُ ذاتُــهُ الذي تفاجأتُ به ونحن نــتجمع لصلاة عيد الفطر، مع اختلاف دلالي عميق أن الإمام هذه المرة من الجماعة نفسِها، وربما فقيه أحد مساجدها الجبلية؛ مما يشوش على الأذهان ويزعزع الفرضية المرفوضة أصلاً: حصلَ الأمرُ في التراويح لأن الإمام شابٌّ وافــدٌ وطالبُ علمٍ.
ننبه ثالثاً أن أحد العارفين همسَ إلينا أن الوزارة المعنية عادةً ما تُرسِل مكوِّنيها أو الذين في طور التكوين للقيام بمهمة الإمامة، خاصة في موسم التراويح، لِـمَا يملكه هؤلاء من صوتٍ جميلٍ وقراءةٍ جيدةٍ لكتاب الله، وإذا ثبتَ هذا فالمصيبةُ أعظمُ؛ مما يعني أن الإمـام أكيدٌ سيُعوَّضُ من قِـبَـلِ الجهة المرسِلة، فلماذا يلتجئ لطلب الصدقة / التعويض بشكل مباشر من المصلين ؟.
وما دمنا لا ندري صحةَ التنبيهِ الأخير من عدم ذلك، وجبَ وضعُهُ بين قوسين (؟)، لنعرض الظاهرة أمام مشرحة التحليل، في بلد استقل عشرات السنين، مما يعني أن له أفْـقـاً واسـعاً في هيكلة القطاعات ومأسستها برهاناً عن دولة الحق والقانون.
لا أحد يجهل انخراط البلد فيما سمي بــ"تأهيل الحقل الديني" مذ سنواتٍ، درءاً لِما قد تُـنـتـجُهُ بعضُ المؤسساتِ من تفكير إلغائي. وبذلك سعت الدولة إلى تكوين ما نٌُـعِـتَ بـــ"المرشدين الدينيين"، فأصبحت تعتمدهم في عدد من المساجد، دون مراعاة لِـمَـنْ يحتلها من قبلُ، كلمة الاحتلال هنا تنبع من معرفتي ببعضها في البوادي، وأحياناً في المدن الصغرى، لـمّا يُـعـمِّـرُ الفقيهُ عقوداً، يلوك نفس الـخُـطَـبِ ويفرض نفسَه على من يرغب ومن لا يرغب.
هؤلاء المعمرون القدماء أولى للدولة أن تمنحهم تعويضاً منتظماً، وتعفيهم من الممارسة، لـتُـعفي نفسَهـا من الظاهرة الجديدة (الفقها في تظاهرة)، ومعلوم أيضا أن مِن هؤلاء مَـنْ تجود قريحته ويبين تكوينه عما لا يملكه الـمكــوَّنُ الجديد.
أين الدولة، ومن خلالها وزارة التوقاف والشؤون الإسلامية من هذه الممارسات اللامسؤولة، ففي الوقت الذي يجب أن تتحمل مسؤولية النفقة على الأئمة؛ وإن حضروا بشكل مؤقت، ليؤمـوا الناس في صلاة التراويـح، نجدها تدع الأمر لأهل الدار، ولعفويةِ الناس وطيبتِهم، المكسوتان بجهلِهم، يُـغدقون على صاحب الصوت الجميل، في نسيان تامٍّ أنهم يدفعون الضرائبَ للدولةِ لـيُـعـفُـوا من الـدفـع مرة ثانية، ولو تحت غطاء التصدق؛ الذي أبوابُـه ومجالاتُــه وأفضيتُه معروفةٌ لدى كل مسلم.
وإن كان المسجدُ يتوفر على فقيه "شَــارْطْ" للقبيلة أو الجماعة، فأولى به هو أن يخصص أجرتَـه الشهريةَ لمن يعوضه، لأنه لا يجوز أن تسير أمور الناس بهكذا حـال، وإلا على الدولة أن تُـعَـمِّـمَ ما تعتمده في المساجد الكبرى، المتوفرة على فقيه وإمام، خطيبٌ عالم متمكن من العلوم الشرعية، وإمام يجيد التجويد وقراءة القرآن.
لا أغفل أن بعض الفقهاء يعتمدون على ما يسمى "الشْــرْطْ"،  هؤلاء يُـعوّضون بما يسطره عُـرفُ الجماعةِ، وبما تجود به الـعـوائل في المناسباتِ وهذا أيضا يجب الـقـطـعُ معه في ظل الحديثِ عن مشروع "إصلاح الحقل الديني".
    ما قيمة المؤسسات إذا كان المُصلي يدفـع وبالمباشر لمن يصلي به، ولو في صيغة من يريد أن يتصدق، ولو توقف الدفــع في الأعياد وصلاةِ التراويـح. نعم للصدقة، لا بأس أيضا -كما يفهم ويبغي الكثيرون - لأن الأمر ليس غصباً كالضرائب، ولكن يحز في نفس المواطن المغربي ذلك، ويجعل المتتبع يأسف للزمـان الذي قطعته الدولة الحديثة في رسم مسافات طويلة في تشكيل مفهوم دولة المؤسسات.

ذ. محمد بوشيخة
كاتب وصحفي من المغرب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق