الأربعاء، 28 أغسطس 2013

"أجساد فقط" من بنيات السرد إلى تسريد الواقع الاجتماعي - ذ. المحجوب أمان



تعد القصة القصيرة جدا من الأجناس المندرجة ضمن آرومة السرد، والناتجة عن تنامي الأشكال وتطورها، والمؤكدة على دينامية الجنس السردي ذلك أنها انبثقت من داخل القصة والقصة القصيرة، فجاءت استجابة للتجريب، وامتصاصا لغضب الحفاظ على نفس الأشكال والثوابت، دون أن يعني هذا الكلام أن القصة القصيرة جدا هي نسخة طبق الأصل للقصة أو للقصة للقصيرة، ذلك أن كل جنس له فرادته، ويبني جماليته الخاصة انطلاقا من الاستجابة لتحولات الأشكال البنائية وآفاق التلقي. فللقصة القصيرة جدا أركان ضمنت لها التميز والتفرد أمام بنات جنسها، وهي الأركان التي تم اختصارها في القصصية والجرأة والوحدة والتكثيف والمفارقة.
غلاف المجموعة

لقد جاءت القصة القصيرة جدا استجابة لعدة عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية معقدة ومتشابكة، لتعبر عن قلق الإنسان وتكشف عما أزعجه ويزعجه فكريا ووجدانيا، خصوصا مع تحولات الزمن الحاضر من هيمنة زمن السرعة وبحث الإنسان الدؤوب عن تحقيق طموحاته في زمن قصير، فجاء هذا المولود المنذور دوما للتجديد والمعبر عن تناقضات المرحلة متخذا من قصر الحجم وكثافة السرد مسلكا، ومن الاقتضاب والتلميح منهجا، ومن عنصر الإدهاش والإرباك مطية لخلخلة أفق الانتظار، ينضاف لكل هذا اتكاء بعض كتاب القصة على السخرية والتناص والترميز كآليات لتوليد الدلالة داخل النص.

أولا: بنيات السرد في مجموعة "أجساد فقط".
"أجساد فقط" هو العنوان الذي انتخبه الكاتب محمد بوشيخة لمجموعته القصصية القصيرة جدا، تتكون من تسع وعشرين قصة قصيرة جدا، وثلاث متواليات قصصية قصيرة جدا، موزعة في أضمومة من 78 صفحة، وبغلاف أنيق أبدعه الفنان محمد سعود، وضع فيه لوحة معبرة، ارتبطت بعنوان المجموعة، ذلك أن الغلاف جاء على شكل وجه غير واضح المعالم، يحتوي أجساد أناس كثر عددهم، دونهم انسيابٌ بلون أحمر على شكل جنين، وأمامهم صورة نصفية للجانب العلوي لشخص بلون البياض، فكان انتقال هذه الأجساد من وسط الدم إلى مرحلة رمادية اكتمل فيها الجسد الموقوف لتنتهي باستلام يوحي بياضه بالرضوخ لقدر الموت، وكأن الصورة اللوحة تتماهى مع العنوان لتقول قد نموت كأجساد فقط، وسنبقى باعتبارنا أرواحا حاملة لقيم وأفكار ودلالات، ولعل هذه القيم هي ما تحاول المجموعة القصصية تشريحه سلبا وإيجابا في قالب قصصي قصير المبنى بعيد المعنى.
من الناحية البنائية يظهر لنا أن مجموعة "أجساد فقط" تمتاز بالخصائص الآتية:
1 - بنية الحجم القصير: تمتاز أغلب النصوص الواردة في المجموعة بقصر الحجم ولا تشد عن هذه القاعدة سوى قصة "انتحار"[1] و"الشاعر"[2] رغم أنهما لم يتجاوزا حدود الصفحة الواحدة، لكن طبيعة الجمل الحركية المهيمنة على القصتين تجعلك تشعر بتكثيف سردي وتلخيص فعال فتُسْلِمُك الجملة الأولى إلى آخر جملة بانسياب ودون مواربة، يقول في قصة "انتحار": "وقف حشد من الناس أمام باب العمارة يتطلع إلى أعلى ... من على حافة الطابق السابع يتراءى جندي بزيه الرسمي يبغي السقوط. مناداة من الأمام وأخرى من الخلف ترجو منه التعقل، حلَّت بالمكان قوة التدخل السريع. تدور الأرض بما رحبت، والسماء بما حبلت، والعمارة بما احتوت في عينيه وتختلط، يلعن اليوم الذي أصبح فيه عسكريا بذاك المرتب، بالصدفة حل ساعي البريد، يحمل مكتوبا مغلفا باسمه، تسلمته الزوجة، تفتح الظرف متلهفة، تصرخ بأعلى صوتها: "صَافِي تْرَاجْعْ هَاهْمَّا رْقَّاوْكْ". من هول الفرحة ـ الصدمة طار إلى الأمام فرحا"[3]، في حين استجابت بقية القصص لخاصية قصر الحجم، إذ نجد متواليات في سطرين فقط مثال ذلك "فتنة": "دائما ترمقه بعينيها الساحرتين، تعشقه حد الجنون، حبها صمت، هدوؤها حرب، ابتسامتها طلقة نارية"[4]، ولعل صغر الحجم كان من بين الركائز الشكلية البنيوية للقصة القصيرة جدا وهذا ما يذكرنا مثلا بنص الكاتب الكواتيمالي أوجيستو مونتيريسو حينما كتب قصة قصيرة جدا في سبع كلمات يقول في قصة الديناصور: "حينما استفاق كان الديناصور مازال هناك". إن قصر الحجم الوارد في المجموعة القصصية يجعل من هذا الجنس مواكبا للتطورات السريعة التي يشهدها عالم التغيرات المفاجئة اليوم، ومستجيبا للإيقاع الواقعي اليومي المتسارع، فتصير القصة القصيرة جدا أكلة في دقائق، لكنها تشرح واقعا يحتاج إلى الكثير من الساعات لتجاوز أزماته الأخلاقية والقيمية المعاصرة.
2 - بنية الاقتضاب: إذا كانت الرواية والقصة والقصة القصيرة تميل إلى الطول والإسهاب والحشو عن طريق الوصف وتمطيط الزمن، فإن القصة القصيرة جدا قد انبنت على أساس الاقتضاب والدقة في الوصف وتجنب الجمل الطويلة المليئة بالنعوت، ومن تجليات حضور هذه البنية في مجموعة "أجساد فقط" ما ورد في قصة "ليلة غادر القصر الرئاسي": "سعادة الرئيس، إن الشعب يصرخ بأعلى صوته: ليسقط النظام، وماذا بعد؟. يرددون الشعب يريد رحيل الرئيس ... بعد لحظات ولما أيقن وهم الحكم، وخدعة الكرسي، تناول مسدسه، ليغادر القصر بعد أن تبرأ منه السلاح[5]". تظهر خاصية الاقتضاب بجلاء واضح فانعدمت الصفات والنعوت وتوالت جمل قصيرة، حركية، متراصة، أضفى عليها الحوار المفترض بين الرئيس ومساعده طابع دينامية الحدث. إن حضور هذا الاقتضاب في المجموعة يجعلنا أحيانا نتخيل أن القصة بمثابة لقطة سينمائية مجتزأة تمر علينا سريعة وترتسم إيحاءاتها ودلالاتها في أذهاننا مخلفة أسئلة كبيرة، ولعل أبرز مثال عن ذلك قصة "مضاجعة/مضاجعتان[6]"، فهي تجسد صورة للراشي الذي يقضي مآربه بسرعة ودون عراقيل: "من خلف زجاج الوكالة البنكية رأيت اليد تتطاول مسا بنقودي ... ولما نادى الموظف عن اسمي غير محترم طقوس الانتظار ومدني أمانتي أدركت فحوى مضاجعته النقود سلفا".
3 - بنية التكثيف: التكثيف هو اختزال الأحداث وتلخيصها وتجميعها في أفعال رئيسية، دون أن يعني التكثيف هنا تجميع الكلمات والجمل بل هو تكتيف يلحق المستوى الدلالي فيجعل القصة القصيرة جدا ذات بنية سطحية تشي بالتكثيف وذات بنية عميقة تفيد انفتاح الأفق الدلالي للنص، وتعكس هذه البنية قدرة القاص على تشخيص الحدث المراد مع احترام عناصر السرد ولعل قصة "لفافة"[7] مثلت هذه الخصيصة البنيوية أحسن تمثيل فنصادف حضور كل عناصر السرد  من حدث وشخصيات وفضاء وتحول في البرنامج السردي لأنها تصور حدث الإلقاء بالأطفال المتخلى عنهم يقول: "عامل النظافة صبيحة يوم حار، وهو يجمع ما تناثر جنبات قمامة أزبال الدرب الكبيرة، تراءى له شيء ملفوف، لم يقذف به مع الأزبال، لأنه قد يحمل سرا خاصة وأنه يتخذ ظلا آدميا، أخذ اللفافة وضعها جنبا، فإذا بالكائن وسطها يتحرك، وإذا بالصوت الشجي ينبئ بكائن في يومه الأول".
4 - بنية الوقع الجمالي: للقصة القصيرة جدا وقع جمالي على القارئ عن طريق زرع الدهشة والحيرة لديه، فتشتبك معه ذهنيا ووجدانيا، لتعمل على إدهاشه وإبهاره محدثة بذلك وقعا جماليا، ولعل القصة التي استجابت لهذه البنية هي قصة "الأمن الوطني"[8]، ولعل بحث الكاتب عن بلاغة الوقع الجمالي والإدهاش هو ما جعله يضعها في بداية أضمومته، وينتج الوقع الجمالي في هذه القصة عن طريق التلغيز ونشر الحيرة والغموض والتلاعب بالطباق انطلاقا من الهجرة من الأمن إلى الخوف،  ويبقى السؤال مفتوحا عند القارئ: من هذا الذي تخطفه الخوف الوطني في زمن الأمن الوطني: "رآها من على النافذة بكرة أمام باب المنزل: ماما عمي جاء من السفر / سمعته الجدة فأردفت: بعد كل هذا الغياب جاء، أسرعت الأم توقظ زوجها لينظر الطارق ويعرف هوية السيارة، فتح الباب فتخطفه الخوف الوطني".
5 - بنية التنكير: للشخصيات دور مهم في الكون السردي لأنها تقوم بالأفعال وتُسند لها الأدوار، وإذا كانت الرواية والقصة تحرص على ذكر الشخصيات بالاسم والتوصيف فإن القصة القصيرة جدا لا تعبأ كثيرا بتحديد اسم معين للشخصية بل تحضرها أمام المتلقي وهي تتكلم أو تقوم بدور وفعل،  فتقدم نفسها بنفسها في إطار لعبة مشهدية قائمة على المكاشفة والمواربة في الآن نفسه، تختفي كاسم وتتجلى كعامل يقوم بالفعل وتلون بتلاوين الحدث القصص، فنكون بذلك أمام خفاء وتجلٍ، ولعل التركيز على تنكير الشخصيات يتماشى مع تحولات العصر الحديث وآثار العولمة على الإنسان، حيث تحول إلى كائن مستلب مُشَيّء لا موجب لتحديده بالاسم أو جعله معرفة، ونلاحظ أن أغلب قصص المجموعة تقدم الشخصيات بدون اسم ويكتفي السارد العالم بالتفاصيل بتقديمها مستعملا ضمير الغائب ومثال ذلك في قصة "الأحمر القاني"[9] وقصة "خطيئة"[10] فالشخصيات أنثوية بدون اسم علم يعرفها ويخصصها. ألا يعبر تجريد الشخصيات من الاسم عن الشك في الكينونة والوجود؟، ثم ألا يعبر هذا المسلك عن تطابق واقع  القاص مع واقع شخصياته فيتوخى التعبير عن رفض تشييء الإنسان واستلابه؟.
ثانيا: تسريد الواقع الاجتماعي في مجموعة "أجساد فقط".
الأدب بشكل عام مؤسسة قائمة على التفاعل والاحتكاك مع باقي المؤسسات الأخرى، فلا عجب أن نصادف كتاب الرواية والقصة بمختلف تجلياتها ينفتحون على الواقع الاجتماعي ويحتكون مع ظواهره وقضاياه، خصوصا وأن الأديب واحد من هذا المحيط يتأثر به ويؤثر فيه، وقد ظلت الأشكال السردية هي الأقرب دوما لالتقاط تناقضات الواقع الاجتماعي وما يحبل به من أسرار وخبايا، واستطاعت القصة القصيرة جدا بفضل خصائصها البنيوية أن تلتقط صورا متعددة للواقع بمسراته وأحزانه، ولعل مجموعة "أجساد فقط" لم تخرج عن هذه القاعدة فقد جعلها الكاتب صفحات تفضح جغرافيات القمع والتشرد والحرمان والكبت والنفاق، فكانت بذلك مجموعة تتراوح بين الألم والأمل، ألَمٌ ناتجٌ عن انتشار أمراض خبيثة في شخصيات المجتمع، وأملٌ في تجاوز هذه الأمراض ووضع بلسم وترياق لها.
ويظهر تسريد الواقع الاجتماعي في هذه المجموعة انطلاقا من المستويات الآتية:
1 - الجسد الضائع المتلاشي انتحارا: في قصة "انتحار" ومع معاناة الموظف في أي سلك من أسلاك الوظيفة مع هواجس الترقية يصبح الجسد معبرا أساسيا للوصول إلى الحلم أو الخلاص، إن العسكري يصعد إلى أعلى العمارة ويقرر رمي جسده انتحارا احتجاجا على عدم ترقيته، وحينما يحضر عنصر المفاجأة ويصله خبر الترقية يقرر من شدة الفرح ومن هول الفاجعة في الآن نفسه الإلقاء بحسده، إنه الجسد المتلاشي احتجاجا، والمقذوف للضياع والتيه من أجل الاستمرار  والبقاء، جسد المنتحر جسد يعبر الموت من أجل الحياة.
2 - الجسد الحاضر والفكر الغائب: جسد العسكري ملقى من مكان عال اجتجاجا على واقع اجتماعي مريض، وفي قصة "مسرح"[11] نصادف جسدا يتمتع بالأريحية، مفعما بالراحة، يتفنن في الجلوس والاستمتاع بالتمكن، ذاك هو جسد مخرج جلسة البرلمان والوزير المستعد للمشاركة في مسرحية تمثيلية، لجسد الرئيس والوزير حضور، وللفكر والعقل غياب، فالأسئلة المقترحة أُعِدت سلفا والجواب يُتلى بكثير من العبث والارتياح، القصة إذا تشخص واقع الشعب المغربي مع البرلمان فلا مشاكلهم فيه تحظى باهتمام أو تؤخذ في اعتبار، لذلك ارتأى السارد أن يصف المشهد الواقعة بمسرحية. لأنه مشهد يشهد على حضور الأجساد وغياب الألباب.
3 - الجسد المشتهى: يأخذ الجسد بعدا آخر في ارتباطه دائما بالواقع الاجتماعي، ففي قصة "انخطاف"[12] يتحول الجسد إلى فتنة وغواية، فالرجل يمارس شذوذا على المرأة يتفرس صورتها الهاربة ويدنس يده اليمنى ليسترجع أنفاسه ويحوقل قائلا لا حول ولا قوة إلى بالله، فالجسد هنا يتحول لهدف، وبالمقابل هناك خطاب الروح الذي يبت الندم والقلق في إطار كبح المتعة. ويأخذ هذا الجسد المشتهى كذلك وضع الجسد الفاتن، حيث يصبح الاحتفاء بالجسد احتفاء بالفتنة، وهذا يتضح بالخصوص في قصة "العشق المهبول". يقول: "الجسد قنبلة مدروسة، موقوتة في أغلب الأحيان على الأقل في هذا الزمن الرديء"[13].
4 - الجسد المقهور: للجسد تجلٍ آخر حينما يصير مقهورا محروما، ففي "قصة عيشة بْنْتْ البْلادْ"[14] الفتاة في البادية تعيش خارج الزمن، يتساوى عندها النهار والليل، تحمل روحها ومعها قيمها بعيدا عن جسد ضاع وسط قهر الطبيعة وقهر أقوال الناس يقول: "في كل الأمكنة تسكن حتى في عقول الناس لا تعترف بحدود الزمان، ذات ظهيرة، حارة شمسها، في صحراء خالية إلا مني تكسرت صورتها".
5 - الجسد المحاصر: جغرافيا الجسد تتمدد في هذه الأضمومة القصصية ويأخذ بعدا آخر حيث يرتبط بمؤسسة دينية ليعاني من تعاليم الحصار وهذا يتجلى في قصة "أجساد"[15]، فالمسجد مكان للسمو بالروح والتطهر من أمراض النفس الخبيثة، وفيه يشعر الإنسان أنه متساوٍ مع المتفوق عليه مالا وحسبا، لكن هذه القصة تظهر أن مرضى النفوس لا تأخذهم شفقة على مكان مقدس كالمسجد فحتى في هذا المكان يحلو للبعض أن يمارس إعجابه بنفسه وتكبره أمام الآخرين رغم أن الجميع في المسجد يقف أمام رب الأرباب راجيا المغفرة والثواب، يقول: "يمر أحدهم قاطعا الصفوف، وممزقا الرقاب، يطأ على أصابع رجليه، لا مجال للرد للهمس حتى، وأنت في مكان يتعمد تمويت الأجساد". إن الجسد محاصر وممنوع من الرفض والكلام بحكم المقام فكان الحصار هنا حصارين: حصار بحكم المعتقد وتعاليم الدين، وحصار بسبب وضع يمنعك من الانتفاض غضبا لكرامة اغتصبها من تجاسر على الكرامة الإنسانية، وأحس أن جسده وهيأته أفضل من أجساد الآخرين، فتباهى به وحاصر أجساد الآخرين.
6 - الجسد الذي لا ذنب له: من تلوينات الجسد أن يفضح به السارد عيوب المجتمع و يعري به ما يعتريه من تفسخ أخلاقي وقيمي، خصوصا انتشار الفساد ودور الدعارة، ولعل هذا ما تشخصه قصة "لفافة"[16] حيث يصادف عامل النظافة طفلا في يومه الأول متخلى عنه، تُرِك لوحده يجابه مصيره وأهوال الحياة وهو مازال صغيرا لا حول له ولا قوة، فما ذنب هذا الطفل الملقي أرضا، وكأنه جسد لا روح فيه ومن يتعهده بالحماية والرعاية؟، هو جسد لا ذنب له، وفي منظور مرتكبي الذنب، هو جسد خطيئة، التطهر منه واجب، يقوم على أساس وأد جديد من نوع الخاص، فأمام صعوبة طمره ودسه في التراب اهتدى البعض إلى الإلقاء بهذا الجسد البريء في الفضاء العام. هو جسد لا ذنب له يشئ بخبث الكبار أمام براءة الصغار.
لقد شكل الجسد إذا تيمة لتسريد الواقع الاجتماعي، وفضح بعض عيوبه، فجعله يلج مسالك متعددة ومتباينة، ويكشف عن حياة القصة القصيرة جدا في الواقع؛ حيث تحولت لكاميرا تلتقط صورا مجسدة للوضع الاجتماعي، وإلى جانب ذلك نجد أن هذه المجموعة انفتحت على تيمات أخرى ذات ارتباط بالواقع الاجتماعي تتمثل في:
1 - تسريد أحداث الربيع العربي: حيث نصادف في المجموعة لقطة ملخصة لمآل الربيع العربي في قصة "ليلة غادر القصر الرئاسي"، حيث لما صار السلاح أطهر وأنظف من الجبناء لم يطاوع الرئيس لإنجاز فعل الانتحار.
2 - خطيئة الأعراف والتقاليد: تصور قصة "خطيئة"[17] نوعية الاعتداء الذي يتم على المرأة في ليلة الدخلة بدواعي الالتزام بالأعراف والتقاليد، يقول: "ليلة الدخلة لم ترد استقباله، لم ترد النظر في وجهه، هو لا قرار له أمام الأعراف التي تمنعه تخطي دائرة العرق، هي لا رأي لها غير السمع والطاعة".
3 - الانكسار أمام مطالب الحياة اليومية: جاءت قصة "انكسار"[18] ببوح مباشر وتصوير دقيق لهموم الإنسان البسيط، لدرجة أن هذه الهموم تقظ مضجعه، وتحرمه من سويعات النوم. يقول: "ينام ورجلاه مثنيتان، يحلم وهو هارب من ضغوطات واقع مر، فقر، كريدي لا ينقطع، زوجة تنهره صباح مساء، أبناء جوعى... يهرب ويهرب ويهرب، ليستيقظ وهو لم يفارق مكانه".
4 - ظاهرة اللصوصية: السرقة ظاهرة متفشية في المجتمع، تكشف عن غياب العدالة فيه، وسوء توزيع الخيرات، لكن القاص اختار فضاء خاصا للتلصص وهو المسجد في قصة "ومن لغا فلا جمعة له"[19]، يصور دخول أحد الشخصيات المهمة والمرموقة للمسجد، وتعرضه لمحاولة سرقة من طرف شخص آخر، تظهر عليه علامات الاحترام والتدين والوقار، فالقصة تجسد من جهة التفاوت الطبقي, ومن جهة أخرى النفاق وإظهار الشخصية لعكس ما تبطن، وقد أسعفته آلية السخرية في تصوير هذه المفارقة الاجتماعية في هذه القصة.
5 - واقع الثقافة والإبداع: في قصة الشاعر يصور فيها الحالة التي أصبح عليها وضع الشعر خاصة ومن خلاله الوضع الثقافي، حيث تنتشر ثقافة الموالاة والمحاباة والمداهنة والمهادنة، فالأمسية الشعرية لم يحضرها إلا بعض المارين قرب قاعة العرض، والجميع يصفق رغم عدم الاختصاص، والملقي يعلن أنه يلقي شئيا غير ذا بال.
على سبيل الختم:
إجمالا عملنا من خلال هذه الورقة تقديم قراءة في مجموعة "أجساد فقط"، تتبعنا فيها تجليات البنيات السردية ومميزات هذه البنيات، فتوصلنا إلى أن المجموعة تتميز بالاقتضاب، والاختزال، والتكثيف، وتحقيق الوقع الجمالي، عن طريق الإدهاش، وبث الحيرة، ثم استخرجنا تجليات تسريد الواقع الاجتماعي، فأثبتنا أن حياة النص في الواقع والمجتمع، منه يستمد هواءه، وفيه يتنفس، وهذا ما يجعل من هذا العمل محاولة رصينة لكشف عيوب الواقع الاجتماعي، وقد اجتهد الكاتب لتسريد هذا الواقع عن طريق اعتماد تيمة الجسد التي تراوحت بين الجسد المتلاشي انتحارا، والجسد المقهور، والجسد المحاصر، والجسد الفاتن المشتهى، وهذا ما ضمن لهذه المجموعة ان تنفتح على عدة مواضيع اجتماعية.


[1]: محمد بوشيخة: "أجساد فقط" ـ قصص قصيرة جدا: منشورات الثقافة الجنوبية، الطبعة الأولى: 2013م، ص: 12.
[2]: المصدر نفسه: ص: 52.
[3]: نفسه، ص: 12.
[4]: نفسه، ص: 69.
[5]: نفسه، ص: 24.
[6]: نفسه، ص: 28 .
[7] : نفسه، ص: 44.
[8] : نفسه، ص: 8.
[9]: نفسه، ص: 26.
[10]: نفسه، ص: 30.
[11]: نفسه، ص: 14.
[12]: نفسه، ص: 16.
[13]: نفسه، ص: 56.
[14]: نفسه، ص: 60.
[15]: نفسه، ص: 64.
[16]: نفسة، ص: 44.
[17]: نفسه، ص: 30.
[18]: نفسه، ص: 34.
[19]: نفسه، ص: 40 .