الجمعة، 31 أغسطس 2012

الأداء عن الصلواتِ أثناء الصلواتِ يضربُ في عُـمـقِ دولةِ المؤسساتِ

لسنا دولـةً حديثةَ الاستقلالِ لننتظر عقوداً عَـلّـنـا نهيكل قطاعات حيوية؛ تشكل معمار الدولة الحديثة، كما لسنا في دولة لا دينية حتى نهتم بقطاعات ونغفل تأهيل قطاعٍ يشكل عصب الأمة، وأي خلل فيه قـادر على زعزعة الاستقرار المجتمعي؛ بل وقادر على تحريف مسار الاهتمام البشري، مِنْ "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا" (الآية 77، سورة القصص) إلى كائنات تعتبر الدنيا دار زهد ومجرد تعبّـد لا ينقطع ليل نهار، في وقتٍ تنقل إلينا الأخبار أن «عيسى عليه السلام مـرّ برجل من بني إسرائيل يتعـبّـد، فقال له: ما تصنع ؟، قال: أتـعـبّـد؛ قال: ومَـن يقوم بك ؟، قال: أخي ؟، قال: أخوك أعبد منك. ونظير هذا أن رفقة من الأشعريين كانــوا في سفر، فلما قَـدِموا قالـوا: ما رأينا يا رسول الله بعدك أفضل من فلان، كان يصوم النهار، فإذا نزلنا قام من الليل حتى نرتحل؛ قال: فمن كان يَـمْـهن له ويكفله ؟، قالـوا: كلنا، قال: كلكم أفضل / أعبد منه» (العِقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي).
أصلُ هذا الكلام موقفان حــزا في نفسي كـثيراً، سببُهما جهلُ الناس في ارتباطٍ بعفويتهم، وسوءُ تدبير القطاع الديني من قِـبلِ وزارة التـوقاف والشؤون الإسلامية، واللااهتمام بركن أساس في دولةٍ أولُ سطور دستورها "المغرب دولة إسلامية".
الموقف الأول، والذي ما وجدتُ له عنوانـاً غير استخلاص الأداء عن الصلاة، صلاة التراويح والعيد أقصدُ. فخلال هذا الشهر الكريم؛ الذي حـلّ وارتحل في انتظار عودته الميمونة، كنتُ أصلي صلاة التراويح كـأيـها الناس في مصلى بجماعة تابـعـة لمدينة أكـاديـر فإذا بفقيهِ المسجد، المعتَمَـد فيه، يستوقف الناس ذات مرة بعد آذان صلاة العشاء وبعدها التراويح، ليحدثهم عن أهمية الصدقة في شهر رمضان، وفضل ذلك على الإنسان الصائم في الدنيا والآخرة.
في البدء اعتبرتُ الأمر موضوعَ درسٍ من دروسه التي يقدمها بعد آذان العشاء بُغيةَ تـجـمّع الناس للصلاة؛ ولأني لا أتقن الأمازيغية؛ إنما أتعارك لفهمها وإن بشكل أعرج، ظل السؤال لدي معلقاً، خاصة لما توقف الفقيهُ والناس أمامي ومن حولي يضربون أياديهم على جيوبهم، سألت مَـنْ بقربي فأخبرني أن الأمر يتعلق بجمع بعض المال لِـمَـنْ يـؤمّ الناسَ في صلاة التراويح، وهو القادم من مدينة بعيدة، خصيصاً للصلاة بـهم، لصوته الحسن الرخيم، ولأفضلية قراءته على قراءة فقيه المسجد الـمُـعـتَـمَد.
في تلك اللحظة، التي يمر فيها مََن تكلفوا جمع التبرعات النقدية بأكياس بلاستيكية، أمام الصفوف ليتصدق من يرغبُ (والحق أن الفعلَ ليس بصورة تشبه الأداء في الطريق السيار؛ بمعنى أنّ من لم يؤدّ لا يصلي. لا، فهو اختياريٌّ تطوعيٌّ، ولو فيه بعض الإحراج). قلتُ في تلك اللحظة، وربما وحدي من جموع الحاضرين في المسجد، مَـنْ حضرني سؤالٌ عريضٌ: أيـصـحّ ذلك في دولة المؤسسات ؟؟.
وقبل شرح لماذا السؤال وَجَبَ التنبيهُ إلى أنّ مَـنْ تُجـمَـعُ لأجله النقود هو الإمام الوافد، لا فقيه المسجد، بتصريـح مَنْ سألتُ، بل ومن خلال ما قاله فقيهُ المسجد نفسُهُ، ومَـنْ تلاه حديثاً متحدِّثـاً بلكنة عربية فصيحة عبر مكبر الصوت، ليُفهِمَ الناسَ أن الإمام مجردُ طالبٍ، ما يزال يدرس، وإنه قـدِم من مدينة بعيدة خصيصاً لأجل الصلاة بالناس، وما يتبع ذلك من كلام، هو أشبه بالذين يقفون عند أبواب المساجد بـلَـوْحـاتٍ تُرسَمُ فيها صوامــعُ وتُسَطر عليها آياتٌ، لا يدري الناس أهي في حُـكـم ما سيكون فعلاً، أم إنها حيلةٌ من الـحِـيَل تستقي من أفكار ميكيافيلي قاعدتها.
وَجَبَ التنبيه أيضا أن الفعلَ تكرر مرتين خلال شهر الصيام، عند صلاة التراويح، مع الإخبار الـمُسبَقِ في المرة الأولى أن فريقاً سيعبُر ذات صباح بالحوانيت والديار للأمر نفسِهِ، كما أنه الفعلُ ذاتُــهُ الذي تفاجأتُ به ونحن نــتجمع لصلاة عيد الفطر، مع اختلاف دلالي عميق أن الإمام هذه المرة من الجماعة نفسِها، وربما فقيه أحد مساجدها الجبلية؛ مما يشوش على الأذهان ويزعزع الفرضية المرفوضة أصلاً: حصلَ الأمرُ في التراويح لأن الإمام شابٌّ وافــدٌ وطالبُ علمٍ.
ننبه ثالثاً أن أحد العارفين همسَ إلينا أن الوزارة المعنية عادةً ما تُرسِل مكوِّنيها أو الذين في طور التكوين للقيام بمهمة الإمامة، خاصة في موسم التراويح، لِـمَا يملكه هؤلاء من صوتٍ جميلٍ وقراءةٍ جيدةٍ لكتاب الله، وإذا ثبتَ هذا فالمصيبةُ أعظمُ؛ مما يعني أن الإمـام أكيدٌ سيُعوَّضُ من قِـبَـلِ الجهة المرسِلة، فلماذا يلتجئ لطلب الصدقة / التعويض بشكل مباشر من المصلين ؟.
وما دمنا لا ندري صحةَ التنبيهِ الأخير من عدم ذلك، وجبَ وضعُهُ بين قوسين (؟)، لنعرض الظاهرة أمام مشرحة التحليل، في بلد استقل عشرات السنين، مما يعني أن له أفْـقـاً واسـعاً في هيكلة القطاعات ومأسستها برهاناً عن دولة الحق والقانون.
لا أحد يجهل انخراط البلد فيما سمي بــ"تأهيل الحقل الديني" مذ سنواتٍ، درءاً لِما قد تُـنـتـجُهُ بعضُ المؤسساتِ من تفكير إلغائي. وبذلك سعت الدولة إلى تكوين ما نٌُـعِـتَ بـــ"المرشدين الدينيين"، فأصبحت تعتمدهم في عدد من المساجد، دون مراعاة لِـمَـنْ يحتلها من قبلُ، كلمة الاحتلال هنا تنبع من معرفتي ببعضها في البوادي، وأحياناً في المدن الصغرى، لـمّا يُـعـمِّـرُ الفقيهُ عقوداً، يلوك نفس الـخُـطَـبِ ويفرض نفسَه على من يرغب ومن لا يرغب.
هؤلاء المعمرون القدماء أولى للدولة أن تمنحهم تعويضاً منتظماً، وتعفيهم من الممارسة، لـتُـعفي نفسَهـا من الظاهرة الجديدة (الفقها في تظاهرة)، ومعلوم أيضا أن مِن هؤلاء مَـنْ تجود قريحته ويبين تكوينه عما لا يملكه الـمكــوَّنُ الجديد.
أين الدولة، ومن خلالها وزارة التوقاف والشؤون الإسلامية من هذه الممارسات اللامسؤولة، ففي الوقت الذي يجب أن تتحمل مسؤولية النفقة على الأئمة؛ وإن حضروا بشكل مؤقت، ليؤمـوا الناس في صلاة التراويـح، نجدها تدع الأمر لأهل الدار، ولعفويةِ الناس وطيبتِهم، المكسوتان بجهلِهم، يُـغدقون على صاحب الصوت الجميل، في نسيان تامٍّ أنهم يدفعون الضرائبَ للدولةِ لـيُـعـفُـوا من الـدفـع مرة ثانية، ولو تحت غطاء التصدق؛ الذي أبوابُـه ومجالاتُــه وأفضيتُه معروفةٌ لدى كل مسلم.
وإن كان المسجدُ يتوفر على فقيه "شَــارْطْ" للقبيلة أو الجماعة، فأولى به هو أن يخصص أجرتَـه الشهريةَ لمن يعوضه، لأنه لا يجوز أن تسير أمور الناس بهكذا حـال، وإلا على الدولة أن تُـعَـمِّـمَ ما تعتمده في المساجد الكبرى، المتوفرة على فقيه وإمام، خطيبٌ عالم متمكن من العلوم الشرعية، وإمام يجيد التجويد وقراءة القرآن.
لا أغفل أن بعض الفقهاء يعتمدون على ما يسمى "الشْــرْطْ"،  هؤلاء يُـعوّضون بما يسطره عُـرفُ الجماعةِ، وبما تجود به الـعـوائل في المناسباتِ وهذا أيضا يجب الـقـطـعُ معه في ظل الحديثِ عن مشروع "إصلاح الحقل الديني".
    ما قيمة المؤسسات إذا كان المُصلي يدفـع وبالمباشر لمن يصلي به، ولو في صيغة من يريد أن يتصدق، ولو توقف الدفــع في الأعياد وصلاةِ التراويـح. نعم للصدقة، لا بأس أيضا -كما يفهم ويبغي الكثيرون - لأن الأمر ليس غصباً كالضرائب، ولكن يحز في نفس المواطن المغربي ذلك، ويجعل المتتبع يأسف للزمـان الذي قطعته الدولة الحديثة في رسم مسافات طويلة في تشكيل مفهوم دولة المؤسسات.

ذ. محمد بوشيخة
كاتب وصحفي من المغرب

حكومةُ بـنـكيران ومسرحةُ الفعل السياسي

    يحدثُ أن يُـنـافسَ المرء ويـتـعاركَ لأجل الوصول إلى ما يرسُمُه لمستقبل بعيد، ويحصلُ أن يكون هنالك تنظيمٌ، سياسي أو نقابي أو حتى جمعوي، يخطط في قانونه الداخلي أو ما بين سطور ذلك القانون لِمَا يهدف إليه من وراء كل شعاراته وإسهاماته بكل أنواعها.
    معلوم أيضا في عُـرْفِ عالَم المخدرات، في أعلى مستوياتها، أنها بالقدر الذي يبطش فيها فاعلوهـا بـمَـن اعترض سبيلَ نجاح أي مهمة، بالقدر نفسِهِ، أو أقل بقليل، يُـسْهـمون في بناء المساجد، وتقديم العَـوْن في عديدٍ من الجمعيات الإنسانية، لذلك فـقـراءةُ القرآن عندهم في المسجد أشبهُ بتصويب النار في صدور الأعداء كلما اقتدى الظرف، ذلك أيضاً شبيه ببعض المسؤولين الكبار، يمدون لك العون بيد، ليصفعونك بأخرى وبـــأكــثر ضراوة.
    لا نتهم في هذه النافذة، من خلال التقديم السابق حكومةَ بنكيران بسلوك الطريـق نفسِها، كما لا نرفــع عنها وصفةَ ما يمكن نـعـتُـه بــ: "مسرحة الفعل السياسي".
    كـلُّ محترفٍ سياسي يعترف بأن صفّ المعارضة أهـونُ من صفِّ الحكومةِ، ذلك لاعتبار أن التعليقَ على الفعل أيسرُ من القيام به. ومن حسناتِ الفعل السياسي في أيِّ بلد أن الوصولَ إلى مرحلةِ الفعل يـمـر عبر الـمـعارضة وإشـهـار السيوف والتبجح بالقدرة على الفعل.
    الفعلُ المسرحي في أبجديات أب الفنون يكتسي توجهين رئيسَيْن: الكشف عن الفكرة، التي على أساسها تقوم المسرحية، باعتبارها وجها لفعل إنساني، قَـبُـحَ أو جَمُل، ومن جهة ثانية، بقدر تقديمها أفـكـاراً ورؤى فهي تسكتُ عن الأهم أكـثر من أنها تفصح عن الواقـع.
    لا غرابة في أن ما يحدث من تجاذب سياسي اليوم بين الحكومة والمعارضة؛ هو مرآة المرحلة السياسية في بلد وُصفت ثورته بالسلمية، وتحولاته بالعميقة؛ بناء على دستور يــوليوز 2011م، وانتخابات 25 نونبر، التي أسفرت عن فـوز حزبٍ؛ ربما يشكل الورقة الأخيرة في بناء الدولة الحديثة. وفشلُـهُ في إقناع الشريحة العريضة من الشعب بأن كثيراً من الأمور تغيرتْ، كفيلٌ بأن يدفـع بالمواطـن لأن يقطع مع يافطةِ الأمل ويرمي بها في فـوهة بئـر لا نهاية لعمقها.
    لسان حال المواطن المغربي اليوم، وهو يتلقف الأخبار من هنا وهناك، ويتابـع جَـلْسَات المجلِسيْن، يقولُ: ما الذي تغير غير الوجوهِ والأسماءِ، وتَـبدَالِ الأدوار؛ من الحُكم إلى المعارضة، ومن المعارضة إلى الحكم ؟؟. أما السياسة العامة فيبدو أنها تسير بنفس المنوال، وبنفس درجة الوتيرة، عدا تحسيناتٍ لا تمس عمق القضايا التي من أجلها تمنى المغربي الضعيف الانفراج عنها من سباتها العميق.
    فالإخبار عن «المأذونيات» وجـعـلِها شماعةَ امتيازٍ تحققَ للحكومة، دون تحييدها من أصحابها، وبعيداً عن أسلوب العاطفة ويافطة الاستحقاق فأمر يثير الاشمئزاز.
    فالمغاربة من طينة واحدة، ومعظمهم فقراء ويحتاجون إلى «كريمات» جميعهم؛ إن سلكنا طريق من يستحق وفي وضعية اجتماعية ضعيفة. وهنا تحضرني حكاية أحد الزملاء؛ الذي قال لي ذات نقاش: "إن أبناء الجنوب كل الجنوب الشرقي، يحتاجون إلى تعويضاتٍ شهريـةٍ فقط لأنهم يحرسون التراب هناك، دونما مشاريـع للشغل، لا ولا مصالح ولا مستشفيات؛ تشبه على الأقل ما في المدن على علاتها، وأنا أعلم أن الجنوب ليس وحده مهمشاً، إنما كل ما اصطُلح عليه ذات تاريــخ مشؤوم بـــ «المغرب غير النافـع»، ولكن من حيث المصلحةُ الوطنيةُ العليا يبقى مغربــاً، وعزيـزاً على كل المغاربة، لذلك وجب أن يكون نافـعاً من وجهتَين لا من وجهة واحدة؛ ترتبط بأن فيه ساكنة، أما أمر شؤونها فلأجَــلٍ غير مسمى.  
    ماذا تعني عبارات: "هـنـاك جيـوب مقاومة" أو "عفاريت تتربص بالإصلاح تربصاً" أو "تماسيح لا نـقـو على مجابهتها"؛ هذا يعني شيئاً واحداً، أن كلام الأمس غيرُ كلام اليوم، وأن محاربةَ الفسادِ التي تشدّق بها عديدٌ من قادة الحزب الحاكم، أصبحت اليوم في خبر كان، و «عفا الله عما سلف»،؛ لأن المواطن -يقول رئيس الحكومة- يهمه استقرار المغرب؛ دون أن يدري السيد بنكيران، أن هذا المواطن المسكين "ما عْـنْـدُو ما يْـخْسْر"؛ لأنه أصلاً لا يملك شيئاً غير حب تراب هذا الوطن، والاستقرار المزعوم هـو أولى لأصحاب المال والشركات الضخمة والموظفين الأشباح والمفسدين؛ لأن في استقراره استقرارٌ للفساد، وفي ثبات مائه إعلان أنه ليس صافياً بالقدر الذي يبعث على الارتياح، أليس الحزبُ نفسُهُ من حملَ شعاراً في المعارضة "خْـوْضْـها تْـصْـفَـى"، ولما شُـبِّــهَ لأعضائه أنها صَفَتْ شربـوا من علقمها، فخوضوها هم الآخرون، وبـاتـوا يحدثونـنا عن الاستقرار، وأن «المواطن يفهمنا وأن زيادة طفيفة في المحروقات لا تعني للمسكين شيئاً»، آه عليك يا بـنكيران ما الذي أنت فاعـل وماذا أنت قـائـل !!؟؟.
    المواطن المغربي البسيط يريد استقراراً حقيقياً لا مشبوهاً. استقرار تتكافأ فيه الفرصُ، وتُـوزع فيه ثرواتُ البلدِ بشكل عادلٍ، لا الذي يجعل الأقوياءَ يستقوون، والضعفاءَ يزدادون ضَعفاً. استقرار يعتبرُ المغاربةَ من طينةٍ واحدةٍ، وكل ترابه من معدنٍ واحدٍ. استقرار مبني على الرضى وعلى الإيمان بأن المغرب فعلاً شهد تحولاً، لا الذي يعني خدمةَ المفسدين المستفيدين من اقتصاد الريــع بيافطات مختلفة، استقرار غير مبني على الخواء، ولا على «عفا الله عما سلف»؛ إنما المحاكمةُ والمحاسبةُ اللتان تجعلا النفوس تشعر فعلاً بأن هناك استقراراً، وأن هناك دستوراً جديداً.
    نعلم أنه بــالإقدام نفسِه الذي تعبأت به و له قياداتُ حزب المصباح قبل الانتخابات، بدأت به عملها بعد فـوزهـا، لكن سرعان ما خَفَتَ ضوءُ مصباحِها، ليعدوَ هو الآخـر شأن شعارات الأحزاب الأخرى التي حكم عليها التاريخ بالفناء الرمزي. وإن بدا أنها ما تزال تتحرك؛ فلأن الانتماء الحزبي عندنا في المغرب يجب أن يُعرض على سرير طبيب نفساني ويـواجَـه بأسئلة عميقة، ترتبط في مجملها بمعنى الانتماء ذاته، فكثيرة هي أحزابنا، حتى الجديدة منها، التي تنشد الحداثة، سلكت طريق الجمع واللم، دون الالتفات إلى الفكر والمبدأ، ومنه فكل مؤتَـمر حزبي تحج إليه أعداد هائلة، على غرار الأعداد الهائلة من شخصيات وقيادات خارج الوطن، التي تُستقطبُ بدعوات وتعويضات مالية، لا لشيء إلا لـيُـحفظ ماء وجه مسؤولي هذا الحزب أو ذاك، وليظهر في الإعلام أن قاعدته لا يُستهان بها، ويجب أن تـؤخذ بعيون الاعتبارات في أي استحقاق ديمقراطي، ولو أن تحقيق الديمقراطية لا يلتقي مع انتشار الأمية أبــداً، ولا أدري كيف تجد جاهلاً، ليس له في أمر السياسة نصيب، ولا في أمر العباد معرفة، ولا بشؤون الوطن دراية، منتمياً إلى حزب، ويحصل على التزكية ليترشح في هذه الجهة أو تلك، وبعد أن كان عدّاءً أو فلاحاً أو مغنياً أو نجاراً، أصبح سياسياً، دبلوماسياً، ومزج لنا بين ما كان يُتقن (حرفته) وما لا يُتقن (السياسة)، لنحصل على خلطة تليق لكل شيء إلا لشؤون المواطن الضعيف، وتهتم بكل شئ إلا بقضايا الوطن، الصغيرة والكبيرة، على حد سواء لأن فاقد الشيء لا تنتظر منه شيئاً.
    بُـعَـيْـدَ الانتخابات كنتُ من الذين أمـلـوا خيراً من هذه الحكومة، بقيادة حزب المصباح، طبعاً بنوع من التوجّس، لأني كنت واثقا أنها الورقةُ الأخيرةُ التي ظن منها الشعب فِـكَـاكـاً له مـع الفساد؛ لذلك ذيلتُ مقالاً سابقاً لي بـعـنـوان: "البديل الإسلامي في المجتمعات العربية الثائرة برداء سياسي جديد ..!!"، نُـشِرَ فـي موقـع هسبريس، بتاريخ: 29 دجنبر 2012م "أن الإرادة الواضحة لرئيس الوزراء من خلال تصريحـاته بشأن الاهتمام بالقطاعات التي تلامس شؤون المواطن عن قرب، تشجع على الارتيـاح المبدئي لِـما ستؤول إليه التنمية في البلد؛ إن لم يكن من وراء الخطاب كثير من الاستفهامات".
    فعبارة الاستثناء "إن لم يكن من وراء الخطاب كثير من الاستفهامات"، هي التي رشحتْ الآن، وأظهرتْ مشروعيةَ تـوجُّـسي وتـخـوفي، شأن عديد من المغاربة، لأن درب الفعل السياسي في المغرب له من الخفايا و الخبايا ما هو أشبه بشبح "عِيشة قْنديشة"، هذه التي تحولت في عهد بنكيران إلى تمساح وعفريت، وأن المفسدين -يقول بنكيران- "لا أعرفهم أنا بنفسي" وحتى إن عرفـتُـهم -يضيف- "فلا يجب أن نوقف العجلة في المحاسبة والمحاكمة وما ينتمي إليهما،؛ ولأن المغرب هدفه هو المضي إلى الأمام فــــ "عفا الله عما سلف" و "بـركا".
    نعم مَـنْ مِنَ المفسدين الآن لا يشجع سياسة بنكيران، لأنهم "فْـلْـتُـو باللّي سْرقُـو" دون محاسبةٍ ولا محاكمةٍ، ومَنْ مِنَ الضعفاء والمقهورين يرضى بهكذا سياسة، والحال أن ما مَـرّ من العمر في البؤس انتظر من هذا الوزير خيراً في أن يجتث الفساد من جذوره، الأمر الذي لن يتأتى إلا بمحاسبة أهله، ورد الأموال إلى خزينة الشعب، ومـن ثَـــمّ يــجــد السيدُ الوزير مــا يُـكمل به حاجيات "صندوق المقاصة"؛ الذي بعدم محاربة المفسدين، سنجدهم أيضاً من سيستفيد منه بقلبِ الأوراق وتهريبِ الأموال المسروقة وخلقِ أسر فقيرة في الظاهر، غنية في العمق، لتظل دار لقمان على فقرها ودار فرعون على غناها.
    من زاوية المعارضة، لم يعد المتابـع للشأن الوطني يعرف دورها الحقيقي، هل هو المماحكة والمبارزة، أو المتابعة النقدية الوازنة والمساهمة في الدفع بالشأن العام إلى الأمام، وامتلاك الجرأة الحقيقية في نشر أي غسيل قديم، ومطالبة الحكومة النظر فيه.
    أنى للمعارضة بـالاختيار الثاني !؟، والمغاربة "غْـسْـلُـو عليها ايديهم"؛ لأن وجوهها وأسماءها لم تعد خافية على أحد، وممارساتها وهي تدبر الشان العام فيما مضى كشفت عن خواء تكوينها، وفساد نواياها، وخبت طموحاتها، من أيّ بابٍ طرقتَ اسمَها ستجدُهُ ملوثـاً بفعل فَسَادِ فَـاسِــدٍ ما. كما لا أحد يجهل كيف تكونت بعض الأحزاب، وكيف جمعت بين كـل ألـوان الغناء وأطياف الفنون وأنواع الرياضات ومختلف البدلات.
    فعلاً، نحن أمام «مسرحة للفعل السياسي»، مخرجُها رئيسُ الحكومة، وممثلوها كل المسؤولين عن تدبير المرحلة، من حكومة ومعارضة.
    هذه «المَسْرَحَةُ» أو المسرحيةُ لا تختلف كثيراً عما سبقها من مشاهد كوميدية ومأساوية، ألا يكون التاريــخ مع هذه الحكومة يعيد نفسَه، وبـأكثر قسوة ؟. على الأقل في الماضي كان الدستور، في بعض أبـوابه، يخلق فجواتٍ تسمح بتبريراتٍ واهيـةٍ عن الانفلاتـات. أما الـيـوم، أين نحن أمام أبجديات الدستور الجديد، وهل فيه ما يبرر تجاوز الفساد الذي كــان، والعفو عن المفسدين، وفتح صفحات جديدة، ومرجع رئيس الحكومة "لأن ذلك يخدم مصلحة واستقرار الوطن !؟".
محمد بوشيخة
كاتب وصحفي من المغرب