الأحد، 2 يناير 2011

حـب جــديــد - قصة قصيرة جـدا


بـعـد تـلك الــحـادثـةِ الـمشـؤومـةِ شُــلّ دمـاغُـــهُ ...
انـتزعـوا قـلـبـه – دون عـلمـه – فـي ذلـك الـمسـتشفى الـمشؤوم ...
وهـو الـمُـحـتـاج إلى قلب آخـر، بـعـد أن هـاجرت بـقـلـبه حـبـيبـتُـهُ إثــر  ر  سكـتـةٍ قلبيةٍ، زرعـوا لـه القلبَ الـمسروقَ.
استفـاق بـعد غـيبوبـةٍ طويـلةٍ وطـويلـةٍ جـدّاً، لينعـمَ بـحيـاةٍ جديـدةٍ مـع قلبٍ جديـدٍ وحبّ جـديـدٍ


محمد بوشيخة

قــاص وناقد من جنوب المغرب



عجـائبُ وغـرائبُ فـي البحثِ عن شريكةِ الحياةِ بإقليمَـيْ طـاطـا وزاكورة، تغطِّيهـا تعاليـمُ وهـميةٌ وتغـلِّفُـها خِـصالُ عنصـريةٌ - دراسة نقدية سوسيوثقافية


تقـديمٌ لابـدّ منـهُ:

على إثـرِ الملف الذي نُشِـرَ بجريدة عيون الجنوب، العدد الخامس، غشت 2009م، والمتعـلّق بـ: "العنصرية في المغرب، طاطا نموذجـاً"، ولأنّي طُلِـبتُ للمشاركةِ ضمن تحقيق صِحفيٍّ عن طقوس الزواج بمدن المغرب، وما يرتبط بها، سيُـنشَرُ لاحقـاً ضمن مجلةٍ أسـريةٍ خليجيةٍ من قِبَـلِ الكاتبة الباحثة الوجدية سعاد درير، ارتأيتُ أن أنشُـرَ ردودي عليها ضمن هذه الجريدة.

تغطيتي هنا ورأيي في الموضوع يتوقفان عـند "ظاهرة البحث عن شريكة الحياة بإقليمَـيْ طاطا وزاكورة وما يشوبُها من تعاليم وهمية بالية ويؤثر فيها من عادات بِدائية"، أما ماستنشرُهُ الكاتبة ضمن المجلة الخليجية فهو إلى جانب هذه النقطة يتناول نِقـطاً أخرى مرتبطةً بـ" ليلة الزفاف، قاعة الـحفْلات، الدْفُوعْ، الحـنّة، البَكارة وعلاقتها بالشرف، حْبْ الرّاسْ ..."، كلُّ هذا طبعاً إلى جانب مااستقـرَأتْـهُ الكاتبةُ في الموضوع في جـلِّ المدن المغربية سيشكّـلُ تغطيةً معرفيةً للقارئ العربي بله المغربي.

في الواقع هنالك مقالاتٌ بالكثرة مُنجَـزَةٌ، تشكّـلُ المناهج السوسيوثقافية وكذا السوسيونفسية منطلَقاً لها لم نُـرد أن نثيرَها قبلاً أو في هذه الآونة، تجنّباً -لاخشيةً من ردود أفعال- مِنْ أن نُحيـي نَـعْراتٍ دفينـةً مريضةً في نفوس بعض القبائل وأحياناً بين أسر القبيلة الواحدة، حتى ينضُـجَ الوعـيُ - وإنْ هذا بعيد المنال -، أو يتقبل المعنيون على الأقل التحولات التي مسّت وتمس عدة جوانب رغمَ عُـلُوّ الأنوفِ دون كعبٍ، مقالات لانريد بسطها حتى حين، حتى لايحدث مثل ماحدث في إحدى القرى التابعة لدائرة أقاايغان – طاطا، لـمّا أراد أطيافُ عِـرقٍ/ لونٍ وبالإجماع مقاطعةَ وعـزلَ أسرةٍ واحدة تنتمي لعرقٍ آخـر، فقط لأنّ الأخيرةَ أحسّت بغُـبنٍ لـمّا قَبِلتْ تزويجَ ابنتها البيضاء لشابٍّ ذي سحنة سمراء تعلوها مسحة بيضاء، وبعد رؤية أم الأخير ومعرفة أنها ذات بشرة سمراء مختلفة عن التي لابنها، أرادت أسرة الفتاة التراجع عـن الـقَبول رغم عِلمِ الكثيرين به، فما كان من عائلة الشاب لعِـزَّةٍ في نفسها إلا أن تقبَـلَ التراجع، لكن بشرط أنْ تعتبر أسرةُ البنتِ حالها وحيدةً وفي مقاطعة تامة مع أسرة الشاب، بل ومع أُسَـرِ عرقِـه كـلّهم.
ولأن موازين القوى اختلّت مـذ زمـن بعيد، ولم تعد حِكراً بحقّ أو بدونه على جنسٍ دون آخـر، لم يكن أمام الأسرة المغلوبة على أمرها إلا الخضوعَ والاستجابةَ، وإعادة الأمور إلى مجاريها والتراجع عن التراجع وتتمة الزواج.

لـماذا ننتظر حتى يحـلَّ بنا الضّعفُ لنؤمنَ بالقيـم ..!؟، أَوَليسَ في النهـاية كـل الطاطويين بِيضاً وسوداً ضحيةَ عنصريةٍ سياسويةٍ إقصائيةٍ ..!؟، أو بمعنى آخـر "شْكونْ ادّاهـا فينـا بيضاً أو سوداً"، أليس الجهـلُ والأمـيةُ والفقرُ والتهميشُ، كل هذا وغيره كـافٍ لنلتفتَ لحقائق أنفسنا، ونـردّد جميـعاً: "أنْ كفـى اعتبارنـا لعبـةً بين أيادي السياسويين؛ فَـمَـنْ غيرهم زرعَ ويزرعُ فينا هذه الفِـتَـن، إليك أيّها القارئُ ماهو واضح في الموضوع وماخفي منه أعـظم ..!؟.

أولاً- مسألة اختيار شريكة الحياة:

أولُ المسالك خطورةً تطأها قدما الرجل الزاكوري والطاطاوي تكمن في اختيار الشريكة، أما هاته فلا رأيَ لها ولا اعتبار؛ إنما السمع والطاعة لما يُقرّراه الأبوان.
وضعُ الفتاة في مسألة الاختيار قديما وحديثا له صبغةٌ واحدةٌ، أما الرجل الذي يحقّ له التفكير والبحث عن شريكة مناسبة بشخصِهِ، تظهرُ صورُهُ أخيراً في ظل انتشار الفضائيات وانفتاح المجال والسفر نحو الفضاء المديني الأكثر تحرراً. والأمر غالبا يبقى منحبساً في فـئة مَـنْ حالفهم الحظ وبلغوا التعليم الجامعي، وحتى هؤلاء صنفان: مَـنْ يظل مؤمناً بالتقاليد والتعاليم مهما علا مستواه، ومَـنْ يثورُ لأنه تمـكّن من ترك العنان لعقله وفكره في تجاوز ماسطرهُ الأجداد والآباء.
أغربُ مايلتصقُ بظاهرة البحث عن الشريكة في التربتين هاتين هو التشبت بعادات وتقاليد قديمة جدا، والارتكان لتعاليم ماأنزل الله بها من سلطان، بل وخارج التاريخ حتى ..!.
زاكورة كما طاطا، فُسحـةُ المجال الجَغرافي تجعل قراهما عديدة، فهناك مَـن يتكلم العربية – الدرجة، ومَـنْ تشكل ُ الأمازيغية لهجته الأصل، إلى جانب هذا التصنيف هناك تصنيفاتٌ داخل كل إطار، فالعربُ منهم بزاكورة "الدرعي"؛ يطلقُ عليهم باشتقاق من هذا الإسم "ضْراوة"، ثم مَـنْ سُمّـوا بالشرفاء ، وداخل الأمازيغ أيضاً تفاوتات وتصنيفاتٌ عديدةٌ.
بطاطا يغلبُ ذوو البِـشرة السوداء، مختلطين بالبيض طبعاً، أكثرهم أمازيغ، ومنهم عربٌ رُحّل؛ بلـدة "بوسموم" مثلاً.
في كلا التربتين تتحكم في البحث عن الشريكة إوالياتٌ عِرقية؛ بحسْبِ مـاخُزّنَ في الموروث العقلي للناس من تفاوتات اجتماعية ثم مايرتبط بالفرق في لون البِشرة، علما أنه داخل صنفٍ واحد تجد لونين مختلفين ( أبيض وأسود)، فأمازيغُ طاطا لسانهم ذو لهجة واختلافُ بشرتهم يضع عوائق عويصة بالنسبة للزواج فيما بينهم.
كلُها أمورٌ وغيرها لاتُـعِر للمستوى الثقافي ولا المادي قديماً أيّ اعتبار، إلا مابتنا نشاهده أخيراً من انفلاتات وثورات من قِبَلِ مثقفين ومتحررين من كلا الجنسين، ومن تـمّ قد تجد فتاةً بيضاء اللون بطاطا تُغرمُ بأسمر وتُصارعُ أسرتها لأجل الارتباط به ولو دفع بها الأمر إلى التبرؤ من دمها ومغادرة الأسرة، وأحياناً وهذا حاصل تضطر الفتاة لابتزاز أهلها بتناول مايجعل منها في خطر مفارقة الحياة، وغالبا وهذا أكثر يحصلُ المحظور، الاتفاق على افتضاض البكرة لوضع الجميع أمام أمْرِ وأمَـرِّ الواقع.
ولأنّ المثال سيُضفي على الكلام صِدقاً ومعقوليةً، أحكي لك أستاذة مايُشبهُ الأفلام أو الخرافـةَ، مما أعلـمُهُ من زملاء، وماعاينتُهُ كباحثٍ متتـبّعٍ يشتغـلُ على مثل هذه المواضيع.

قصّتان واقعيتان من زاكورة وقصتان من طاطا، وتبقى القصص الواقعية المرتبطة باختيار الشريكة في المدينتين كثيرة جدّاً، وفي القصص الأربعة سيظهر لك الغريبُ والعجيبُ لحـدّ عدم التصديق، ولحدّ التناقض الصارخ في عقلية المهووسين الموهومين.

أ‌-         "شاب بزاكورة، من العرق الأسمى بها (= كلمة العرق الأسمى هنا كما هو معتَقَـدٌ فقط عند أناس هذا العرق، والأمرُ لي فيه نظر آخر، سأدلي به أخيراً يبقى مرتبطاً بأبعاد تاريخية ونفسية، أما البشرُ جميعُهم فمن أبِ واحد وأم واحدة، وإلا فإننا نخالف الشريعة الإنسانية، ولاأريد أن أقول الإسلامية حتى ..!؛ التي لاتدع مجالا ولاتتيح أدنى فجوةٍ يلتجئ إليها هذا أو ذاك ليذهبُ أنه من الشعب المختار)، هذا الشاب تعلّق قلبُهُ بفتاة من مدينة آسفي، أحبّها وأحبّبته لحدّ تشكّـلِ صورةِ روميو وجوليت بينهما، الشابّ يدرسُ بآسفي والفتاة طبعا بتلك المدينة تقطنُ، بعد مرور سنتين من علاقتهما تفضّلَ الشابُّ "الشريف عرقاً" لخطبتها، بعد إلحاح الفتاة وتشبتها، الأم في القصة مساندةٌ والأبُ رافضاً رفضاً قاطعاً لدرجة تكبيل الفتاة وضربها حـدّ الإغماء، متوعداً الأبُ الشابَّ بمصير غير مأمون إذا لم يتعد، وفي ملاسناتٍ هاتفيةٍ بين الشاب والأب المتهور المريض سخط الأخير على الأول، يُسبّـهُ بأرذل الكلام وأوقحه، الشاب لفكره وتنوير ثقافته أراد التحدي وفعل، في وقت يعلمُ في قرارة نفسه أنه إذا سوّى جهة الفتاة وذاك من سابع المستحيلات تنتظرُهُ أعرافُ أخرى أشدّ وطأةً من جهة عائلته هو؛ التي لن تقبَـلَ لابنها إلا بفتاة شريفة عِـرقـاً، أما مَـن أحبها المسكين وضحى وصارع من أجلها أباها فمبـخوسَـةٌ في موروث أهله، فضّل صاحبُنا وهو بين المطرقة والسندان التراجع، في وقت وهذا غريبٌ أيضاً ظلت الفتاة تُـتلفِـنُ لـه يوماً بعد يومِ، بل وفي ليلة عرسِها، تطلبُهُ بالهروب معاً؛ ولأنه يعلم موقف أهله كم سيكون أصلبَ من موقف أبيها فضّلَ الدعوة لها بالسعادة، الأبُ طبعاً رفضَ بدافعِ المستوى المادي، وأهل الشابّ ولو وافقَ الأبُ افتراضاً سيرفضون الفتاةَ بدافع البُـعد العرقي، أليس هذا تناقضـاً غريبـاً وهدمـاً للقيم وتأزيـماً لنفوس الشباب؛ بل وتعكيـرَ صفو حياة بأكملها".
ب‌-     "بزاكورة أيضاً، أحبّت فتاةٌ شابّاً حـدّ الجنون، كما هو أيضاً، يلتقيان معاً، عاشا لـحْظاتِ رومانسيةً، بعيداً عن أعيُن أهلهما، ولمـّا تقدّم المغرم، طالبا يـدَ محبوبته من أبيها قامت الدنيا ولم تقعد، ولأن الفتاةَ من النوع الـمؤمن بـ" إمّـا أن أكونَ أو لاأكون" لم تتراجع عن موقفها رغم سخط الأب وتهديد الإخوة بالويلات، وأمام إصرارها وتعنثها المستمرّيْن يجتمع أعيان الأسرة ليقرّروا في النازلة، فخلُصوا إلى قرار جهنمي ينهي الحكاية، تفضّلَ أبو الفتاة وأخوها برميها ليلاً في بئرِ عميقةٍ وأرداها قتيلةً، النتيجةُ = اعتراضُ زواجها من شابٍّ ليس من عِرقها وعشرون عاما للأب والأخ سجنا نافذا. وتبقى شريعةُ العائلةِ: السجنَ والموتَ أهونان من أن ينكحَ أمازيغي فتاةً شريفةً ولو أنه وسيم وأبيض".

مسألةُ اللون بزاكورة لاتحضُـرُ بنفسِ الدرجة بطاطا؛ لأن الناس هناك يستظلّـون جميعهم قساوةَ مَـناخٍ جافّ، فحتى بعض "الشرفاء" منهم "عرقاً" يلتحفُون سُمرةً أخّاذةً ويبقى العرق هو المتحكم.
أما طاطا فكلها أيضاً تناقضاتٌ خطيرةٌ تحكم ظاهرةَ اختيار الشريكة، إليك الأستاذة سعاد قصتاها الواقعيتان.

أ‌-        " شابّان من طاطا تحابّا لحـدّ تـماهي روحيهما، لحدّ قطع الوعود بالزواج، يلتقيان مختبئان، يمارسان مـاظـنّا أنه تمهيدٌ لارتباطٍ آتٍ لامحالـةَ، دون أن يفكّـرا  أن هناك تعاليمَ  يمكن أن تعترض حـبّهما، عشقت الفتاةُ الشـابّ لسُـمرته وشخصيته بله مكانته، في غفلةٍ منها أنّ أمّها للون الأسمر هي كـارهةٌ، وبأزياء ماضٍ مزيّفٍ متشبثة. تقدّم الشابّ لأب الفتاة، طالباً يدها للزواج؛ ولأن الأبَ لايملكُ من أمر القرار ولو نسبة ضئيلة (صفر في المائة)، يعِـدُ بالقَبول ويطلبُ الانتظارَ من الشاب، ليأتي الـردّ أخيراً: موافقون جميعاً غير أن أمّـها لاترغبُ، أمّـا الفتاةُ فقد تصارعت لحدّ الرغبة في الكفر بشريعة أمها وخُزعبلاتها، بأنها لن تتراجع عن موقفها ولن تتنازل عن حبها، لمدة طويلة استعملت الأمّ جميع الطرق والـحِيَـلِ لإرغام ابنتها على التراجع، لدرجةِ التلويحِ بأمور غرائبية: (= إذا تمّ زواجك بذاك الشاب سأغادر البيت دون رجعـةٍ / إذا تـمّ الزواجُ سـأفكّ عـقد الأمومة وأنسى أنّـك ابنتي طيلة الحياة / لـن أسمح بأحفاد من رجل أسمر، ولو أن هذا الأسمر يفضُلُـها بالكثير الكثير، مستوى ونقاءً وأخلاقاً). تسريباتٌ وصلت للشاب تبدو أكيدةً أن الأمّ التجأت للسحر والشعوذة لقتل حبّ الفتاة للشابّ؛ إذْ بدا للأم أنّ البنت في أي لحظة يمكن أن ترتكب حماقةً؛ لأنها مغرمة به حقاً. الأغربُ في هذه الحكاية هو لـمّا يعلم بعض المقرّبين من الفتاة أنها متشبثة بالشاب لـحدّ تواجدها معه في بيت واحد قبل رفضِـه زوجاً، ومع ذلك لم يشفع لها هذا الفعل في تحقيق مرادها؛ الزواج ممن أحبّت. تسجّـلُ الحكايةُ تناقصات صارخة، مركزيةُ الأمّ وغيابُ دور الأبِ رغم اقتناعه بالشابّ ثم لامشكلةَ في أن تظلّ الفتاة بدون زواج إذا لم يطلُبها أحـدٌ من أقربائها أو من جنسها، والأولى طبعاً للقريب وإن هـو بعيدٌ، وإن حصـلَ أن أُرغمت على الزواج بالقريب تجد نفسها منه نافرة".
ب‌-        " فتاة من طاطا؛ ولأنها تابعت دراستها الجامعية، ومن قرية يُعـمرها جنس أمازيغي أبيض، تعرفت على شاب فرنسي الجنسية، تواصلا وقررا الزواج، تقدم الفرنسي بواسطـةٍ لأهل الفتاة، امتنع الجميعُ من الـجدّ حتى الإخوان عن الموافقة بزواج ابنتهم من "نْصراني" = هذه عبارتهم وهذا تعبيرهم، وفي مواجهة غير متكافئة وصلت درجةَ طرد الفتاة من المنزل والتلويح بالتبرؤ إذا تشبثت بموقفها، لكن الشخصية القوية التي تتمتع بها الأخيرة جعلت منها مُحارباً مغواراً، يتغلبُ على الجميع ويتجاوز الأعرافَ. بعد تعنتها شرع المقربون بتقديم تنازلات، مشترطين على الفرنسي أن يُعلنَ الشهادةَ، شرطٌ لم يكن وارداً في الأول؛ إذِ البداية تتطلب زوجاً أمازيغياً من نفس القبيلة، ولأن معظم سكان المغرب والجنوب هنا خاصة يشدون في الأمور التافهة والمظهرية، حفّظتِ الفتاة للفرنسي الشهادة ليلقيها ليس إلا ..! على مسامع الأهل وبحضور فقيهٍ، متفقةً معهُ أن المسألةَ مجرد تمويه، ولما يحصُل العقد يبقَيان حُرّيْـن، يبدو أن الفرنسي شفعت له شهادته وإضماراً شفع له مالُهُ رغم عدم كونه أمازيغياً وبعيداً عن القبيلة، ولو تقدّمَ طاطاوي الأصلِ لهذه الفتاة وأحبته طبعا ورغبته لَرُفِضَ من أهلها بدعوى لونه الأسمر؛ وإ ن كان مسلماً وليس مجرّد معلن عنه فقط والآتي أغربُ".

الحكايا كثيرةٌ أستاذة في مسألة البحث عن الشريكة في التربتين، طاطا وزاكورة، باختلاف الأسباب طبعاً، واقتصرتُ على هذه لمعاينتي لها وعلمي بأسرارها وغرائبها، ويظلّ الجهلُ والانغماسُ في الوهمِ بل والتناقضات الصارخة مايتحكم في أهلها. لم يستسغ الآباء أن زمانهم قد فات وأنّ لأبنائهم كما بناتهم الحقّ في الاختيار، وأن نُبلَ القيم لايعترفُ بما سطره التاريخُ من وقـائع حصلت أولم تحصل تدفع بأبناء اليوم إلى العيش في اختيارات آبائهم ولو دفع الأمرُ بالبنت إلى التعاسة وبالإبن إلى ارتداء زي حياة يسخُطُ عليها قبل ولوجها.
الأمّ التي رفضت لابنتها الارتباط بالشاب الذي أحبته، رغم رغبة الأب وباقي الأسرة بدافع اختلاف اللون؛ بل ورغم عذابات الفتاة الواضحة وثورتها ومرافعاتها المستمرّة تُظْـهرُ مـرضاً نفسياً تعومُ فيه هذه الأمّ، فمن حيث لاتدري تتمتع بسلطةٍ وهمية بغير حقّ، تجعلُ منها متفوقةً على الآخر؛ الذي يفضُلُـها واقعياً ومنطقياً، فانفلاتُ مفاتيح سُلطٍ حقيقيةٍ من يدها (= سياسية/ مادية/ ثقافية؛ أي مايجعلها متميزة وفقط)، غياب ذلك يجعل منها تتشبثُ مرضـاً بما تراهُ يحفظُ لها مـاء الوجه، في ظل واقعٍ لايرحـمُ أحـداً. ففي الوقت الذي لم تطأ قدمُ هذه الأم المدرسة طيلة حياتها؛ بل ولاتتقن غير لهجة لسانها الأصل، وهي ربة بيت ليس إلا، ومن أسرة فقيرةٍ، تجـدُ راحةً ومتعةً فيما تعتبرهُ تفوقاً، علماً أن اللونَ خُلِـقَ معها وليس امتيازاً حـصّلَـتهُ.
حبُّ السلطة والافتتانُ بالتفوق هو مايجعلُ المجتمع الجنوبي يركن في هذه الزوايا، وما يُضفي سُخـريةً على هكذا أوضاعٍ وجودُ نـماذجَ تُظهرُ بالملموس أننا في مجتمع وأمام عقلياتٍ، ليس فقط لاتؤمن بالقيم، إنما تطأ عليها وتعود بنا إلى عهود بدائية. فعندما تجد فتاةً  تشترك مع فتى، تحابّا طبعاً، بيتاً واحداً، طيلة أيام الجامعة، وهما يعلمان أن زواجهما غير ممكنٍ بتاتاً، وفي الأخير يُرمى بالفتاة بين أحضان قريبٍ، عبتـاً يستطيعُ أن يُطـهّرَها من مـاضٍ اختارته بنفسها أو بالمقابل دُفِعت إليه، فأيّ تفسيرٍ للمعادلة.
أيضاً وبإحدى قُرى طاطا لم تُعـر إحـدى الأسـر لطهارةِ دماءِ مَـنْ تفضّلَ لخطبةِ ابنتها أيّ اهتمامٍ لأنه أبيض اللون، وأيضاً رُغمَ أنف الفتاة التي لاتريده، ولو طرقَ باب أسرتها أسمرُ وإن تحابا معا وأرادا بعضيْهما لـرُفضَ، وتـمّ تزويجُها للأول وهو مجهول الأب، طبعا قادم من مدينة بعيدة، أليس هذا شدّاً في القشور، أما الجواهر، مع هؤلاء، فإلى جهنم.
شبابُ طاطا، ولأنهم عانوا الأمْرَ والأمَـرَّ هاجروا خلف جبالها، ليرتبطوا بفتياتٍ من نفس جنس مَـنْ طلبوها ورُفضوا في مدينتهم، فتيات هنّ أجمل وأفضل مستوى ثقافياً ومادياً ممن يتقاطع مع أبناء طاطا التربة. يحكي أحدُ الأساتذة من طاطا مولده قائلاً: "لم تشفع لي وظيفتي، لا ولا أخلاقي بالتفكير في الاقتران بمن أحببتها وأحبتني؛ ولأني أردت أن أظْهِرَ شـرَخَ التناقضات في جسد عوائل طاطا البيض – للتدقيق في الأمور، فهناك بعض العوائل تجاوزت تلك التعاليم البالية -، ذهبتُ إلى مدينة أكادير وتزوجت من فتاة، تفضُلُ مَنْ تجاورني في كل الأشياء، جمالا، ثقافة ووضعا ماديا، والعِرق طبعا مع من رفضني أهلها واحـد، أمازيغ.
لاأظن الحديث اليوم عن الديمقراطية والحداثة في المجتمع المغربي يجوز في وقت مازالت الأعراف ثم التعاليم تتحكم في العقليات السائدة.
إنها العنصرية، نعم، ومن يظن غير ذلك فلأنه غيرُ دارٍ بالأمور. إنها لعبة سياسوية، نعم، ومن يزعم غير ذلك فلأنه خارج الدائرة.
بالمغرب تستعمر العنصريةُ كلّ ترابه بأشكال مختلفة وتوابل متنوعة، فمَـنْ يُمارسُها بطاطا (= البيض الأمازيغ)، تُـمـارَسُ عليه إذا حـلّ بمكان آخـر (= بني ملال والناظور مثلا)، بدوافع طبعا واضحة، وحكاية الفتاة التي أُدرجت شهر يوليوز الفائت بإحدى المجلات الوطنية خير مثال لمـا رغبَ فتى أمازيغي فتاةً عربيةً من بني ملال، وبعد أن نشأت بينهما علاقة حب دامت سبع سنوات، فرفضه أهلها لأنه : "شْلْـحْ"، مرددا الأب بالحرف " لانزوج بناتنا للشْلُوحْ"، وحتى إذا كنتَ من "عرقٍ سامٍ" في زاكورة مثلاً وأنتَ تَـرفُضُ زواج ابنك أو ابنتك لعرق آخر من نفس المدينة، فأنتَ أيضاً مرفوضٌ وتُـمارَسُ عليكَ عنصريةٌ من وجه آخر من قِبَلِ أسرة راقية مثلاً تنتمي إلى عرق أقل شأناً في مخزونك الثقافي الوهمي، لكنه يفضلُكَ في مخزون عائلة الفتاة الناظورية أو الرباطية مثلاً.
    كل مايحصلُ من هذا القبيل ولأنه مغطى بـجهل أعمى، لاأراه بعيداً عن تسييس قديم، عرف صناعه كيف يتحكمون في مفاتيح لعبته، قاعدتها: "لنجعلهم يتصارعون فيما بينهم، ليتركوننا ننهب كما نشاء ، في غفلة منهم جميعاً".
نعم، وكيف لا وطاطا مثلا ترزح في تهميش مقصود وتعتيم إعلامي ممنهج، يغطي الفقرُ وضَعفُ البنية التحتية كـلَّ أرجائها؛ إذْ في الوقت الذي يجب أن تكثف الجهود لأجل النهوض بالمنطقة، بل والسعي خلف تمثيلات وزارية وبرلمانية و ... يبقى السكان – للأسف – يتصارعون في أمور تافهة، وإنْ هي في الأصل المنطلق لأي تغيير حقيقي، لكن دون أن يدروا فالسياسويون أرادوا لهم تلك الأشياء منذ عقود مضت.
نعم لبعض الانفلاتات من هذا أو ذاك، من هذه أو تلك، لكن القاعدة العامة لاتبشر بخير، ومن تـمّ تظل عـوائل بعينها ورسمها هـي مَـنْ تتناوبُ على مناصب وزارية وبرلمانية، ويبقى سكان طاطا وزاكورة مثلا يتشبتون بالأوهام وتضييع وقت كثير في ترّهات فارغة.
نعم لوجود انفلاتات من بعض الشباب في الظاهرة المتحدث عنها، ويكفي دليلا فتاة تثور على أهلها، دفاعا عن حبها، معلنة وبصوت عال " أحبّ فلان وأريد الزواج منه ولاعليكم التدخل في حياتي، فأنا راشدة بما فيه الكفاية".تكفي الثورة وإن فشلت المحاولة، وأحيانا تنجح كما في قصة المتزوجة بالفرنسي.
في ظل هذه التناقضات يظل ارتباط العروسين مشروعاً تخطط له الأسرة قبل أن يفكرا المعنيان بالأمر، دون أن نغفل أن وجود أي حسابات بين أسرتين ولو استوى الأمر في كل مناحيه ستجعل لامحالة الارتباط بين شابين متحابين من تلك الأسرتين مستحيلا، وإنْ لاذنب لهما في خلافات قديمة، أضف إلى ذلك وضع الأسرة التي ستعيش معها العروسة المنتظرة؛ إنْ كانت ممتدةً، وهذا أمر غالب في طاطا وزاكورة؛ فإن اعتبارات أخرى أكثر شدة تأتي في الحسبان، من قبيل، مَـنْ هي زوجة أخ العريس إن وُجد له أخ أو إخوان ؟، كيف هي طبائع أخت العريس، طبائع أمه ...؟ وهلم جرا، مما يعني أخيراً أن شيئا اسمه الزواج عن حب في التربتين يبقى بعيد المنال، اللهم بعض الاستثناءات التي لاتشكل القاعدة.
**    **      **       **     **
كيف يمكن السماح بوجود علاقة قبلية بين شابين، ليدرسا بعضهما البعض في ظل هذه العقليات البالية، إلا أن ما لايفطن له الآباء في هاتين التربتين هو أن مايتم خُفيةً وبعيداً عن الأعين يُـظْهِـرُ أننا أمام مجتمع متحرر خلف الكواليس.
أعرفُ أسرةً في طاطا، يظهر على زيّها التديّن بشكل لافت، أما الأخلاقُ والثباتُ فبهما تنعتُ فتياتها، في وقتٍ وفي غفلةٍ من الأهل يلتقي الشابّ بأحد بناتها لحب وقعا فيه معاً، ولما يطلبُ الشاب يدَ الفتاة يمتنع الأهل عن ذلك، بدعوى أنهم لايزوجون الفتاة إلا لمن هو من جنسهم، ألا تبدو المفارقة غريبة هنا، فتاة تعاشرُ فتاها ولمدة طويلة، ولما يرغب في الارتباط بها شرعاً يتم رفضُهُ.

المجتمع المغربي والأسر المحافظة فيه بوجه الخصوص ترى في العلاقة بين شابين مُقبلين على الزواج تمـظهرا غير أخلاقي، أمر يجني على الفتاة أكثر من الفتى إذا حصل.
-       ماذا تعرف عن فـلانة ؟
-       إنها تخرج كثيراً.
-       إذن لاتصلح للزواج.
لنلحظ إذن، هذه فقط تخرج كثيراً، ولو إلى مهمة ما، أما إذا كانت تخرجُ رفقة شاب رغبها ورغبته للزواج، يبحثان عن التفاهم بينهما فإنها توضع بين قوسين، ويحكم عليها مَـناخُ "الـحُومة" أنها لاتصلح للزواج.
الشباب، أغلبهم طبعاً، لهم يد طويلة في مثل هذه الحالات، لن أتزوج مَـنْ قبِلتِ مرافقتي  وبعيداً عن الناس، ناسياً هذا القائلُ أنه مَـنْ طلب منها ذلك، وتحت سيل – للأسف – من الأكاذيب والإغراءات، فلماذا في مثل هذه الحالات لانقلب الآية ونذهب إلى أن فلانة مادامت وثقت بي، بل وفعلت معي ماشئناه معـاً ألاّ أفِـرّ منها وأفرط فيها مهما يحصل.
فعلُ التربية في مجتمعنا المغربي يحتاج لكثير من الحفر وإعادة النظر، ولامجال للتكثير من المدونات والمواثيق في ظل جهل خطير يسِمُ آباءنا وأمهاتنا وكل ثورة من هذا وخاصة من تلك يجعل منها "وقِحةً" أو "ماكاتحشم"، يُخبرني من تقدّمَ لخطبة الفتاة التي أحبته وأحبها ورفضت أمها، أن فتاته لما تترافع مع أمها وتتخاصم تردد الأم: "مابقيتي تحشمي"؛ لأن الفتاة وبجرأة كبيرة تصرخ أمام أمها "أحب فلان وأريده ولن أتزوج غيره"، العبارة هاته كافية لتدفع بالأم إلى طرق أي باب لمحوها ولو تطلب الأمر مجالسة المشعوذين، ليس الكلام هنا من باب إيماننا بقدرة الشعوذة على قلب القلوب؛ إنما التخمين في ذلك من قبل الشاب أو الشابة والاعتقاد بأنه يؤثر كافٍ بجعل وقْعه أكثر نجاعة، فنعتقد أننا مسحورون والحال أننا نتوهم ذلك فقط.
تفضل الفتاة الجنوبية تواجدها مع من ترغبه زوجاً، وإن قبل إعلان الأسرة موافقتها، تفضل تواجدها معه في منزل واحد، على أن تسير أو تقف معه أمام الناس، ونفسيا فهي بفعلها الأول تهربُ من طقس وتعاليم لادخل لها بها.
أخطرُ مافي الأمر أن تلك الضغوط التي تُمارسُ على الفتاة، خاصة من قِبَلِ أهلها، بالأخص في مسألة اختيار شريك حياتها، كل ذلك يدفع بها إلى البحث عن لـحْظاتٍ عابرة وإن بين الجدران، بل قد يحصل وتتزوج مَـنِ اختاره الأهلُ وتظلُّ علاقتُها بالحبيب مستمرةً، لتحصُلَ الخيانة.
المجتمع المغربي وإن أكثروا على مسامعنا أنه قطع ويقطع مع ممارسات قديمة، ففي العُمق مازال يتشبث بماض مريض، هو الذي دفع به إلى أن يحتلَّ رتبةً متقدمةً في تجارة الجنس، كيف لا وفتاة تبلغ من العمر عقدها الثالث يمتنع أهلها تزويجها مـمّن اختارته واختارها، منتظرين قريباً لها يطرق الباب وقد لايأتي.
ماذا ننتظر من مثيلات هذه الفتاة غير البحث عن عاشق عابرٍ أو الوقوع في يأس و تحطيم من الصعب تجاوزهما.
يتحمل الأجداد والآباء مسؤولية جسيمة فيما وصلت إليه الأسر الشابة، وكل ماسبق بسطه بالمثال والرأي لهو الدافع من وراء كثرة ملفات الطلاق والخيانة في معظم محاكمنا القضائية.

ليس تعـصّباً من وجـهٍ مقـابلٍ انخرطنا في مثل هذه المقالات، إنما رغبةً في إثـارةِ مـاظـلَّ مـسكوتاً عـنهُ، وعَـرَفَ ابتعـاداً مقصوداً مِـنْ قِـبَـلِ باحثين كُـثُـر، ومِـنْ قِـبَـلِ جمعياتٍ تنخرطُ في مشاريعَ كبرى ناسيةً أن الدّاءَ الحقيقيَّ هو الذي يسكن المحيطين بها، وعلاجُ ذوي القربى من داء فـتّاك أولى من أيّ تفكير مشروعاتي ومن أيّ حديثٍ زائـدٍ عن الاستحقاقات الانتخابية أو ماشابه. هذه الفُسحَـةُ إذن مجـرّدُ بـدايةٍ لـمُقـاربات أخـرى من منظـوراتٍ علميةٍ تُفَـتِّتُ الظـاهرةَ وتَـتَتَـبَّعُ الحكايات الواقعية تلو الحكايات حتى نهاياتها ومعرفة مـآلاتها. 



محمد بوشيخة
قاص وناقد من جنوب المغرب
نُشـرت الدراسة بجريدة "عيون الجنوب"، عدد: 06، شتنبر: 2009م