الأربعاء، 5 يناير 2011

السنةُ الجديدةُ والعـاداتُ القـديمةُ .. موضوع الحلقة الثانية عشرة من عمود "ضد التيار" .. جريدة عيون الجنوب


أولُ ما يلفت انتـبـاهَ الـمرءِ عـند استـقبـال سنة وتـوديــع أخـرى هـو الـفـرقُ بين الـهـجري منـها والـميـلادي، لا من حيثُ الـحَـمـولةُ الـدلاليةُ التي تكــتسيهـا الـواحدةُ عن الأخـرى؛ إنـمـا لِـمـا تحظى بـه الـمـيلادية من اهـتمـام زائـد في الاحـتـفـاء، مقـابـل ما تشـهده الهـجرية من لامبالاة، بل جهـلٍ برقـمـها حتى ..!!.
في الضفة الأخـرى يـبـدو الأمـر طبيعـيا؛ لأن أهـل الدار أولى فـرحـا بقـدوم السنة الـميلادية، لِـما تـجـسده عندهم من رموز وما تحمله إليهم من بشـائـرَ قديمــةٍ مازالـــوا متمسكين بـها .. يُــحــيُــون الليلة الفاصلة بين سنة مضت وأخرى قـادمة احتفـاءً بـهـما مـعـا، سنةٌ زائـلـةٌ ملـيـئةٌ بالعـمل والعطاء، وأخـرى قـادمة لـن تزيد السابقة غير بنـاءٍ مستمر وترسيـخٍ لحب وطن إليه ينتمـــون.
شـرقـيـاً، في المغرب خـاصةً، تبدو الـمـفارقـةُ أوسـع، والـنازلة أضخـم، شكليـاً، يعبرون عن استقبال السنة الجديدة لذكرى هجرة النبي (ص) بمزمـار، يكشف في العمق عـن بُـعـدٍ تاريخي أصيل، يرمـزُ لـهـويـة أصيـلة بروح صـافية، خالية من دَنـس مايبغـون تـمريره عـبر قـناتهـم؛ الـمكتفية يـومـهـا بـإعـادةِ فـلمٍ طـال أمـدُهُ، فـلـمٌ لـم تُـستخـلَص منه العِـبَـرُ المبتغاة؛ لـذلك وبنيـةِ الـمتوجّـس تنقـلـوا مكـانيـاً؛ لينـقـلوا إلينا في نوع من الاستهـجـان جـهـلَ الـمـغربي بالسنة الهجرية؛ الفائتة منها والقادمة .. جهـلٌ تتحـملُ مسؤوليــتَـه كـل المؤسسات المنوط بهـا تشكيل ذات مغربية، متشبعة بـمـبادئ الوطنية.
ولأن ديـنَ الإسـلامِ أحـدُ أقطـابِ الهويــةِ المغربيةِ، فالجهـلُ بـه وبمتعلقـاته يسئ لمبدأ الوطنية المغربية.
لـو كـلفتْ قنـاة من قنواتنا العديدة نفسـها ونظـمت مسابقة عن موضوعٍ مرتبـط بالسنة الهجرية لكلّـف المتتبع؛ المفتون بالربح الموهوم نفسـه أيـضـاً بالبحث ومن ثَـمّ مـعـرفة أي سنة سيستقـبل، أم إن الربـحَ لـن يكون بمثـل ماستجنيه عن مسابقةٍ لـها علاقـة بالميلادية، وأي موضوع "فنان راي محبوب لدى المغاربة" .. ولأنـي مفتون بالمقارنة استفـزني السؤال وقلت حـالمـاً: "لو نـظـموا في السنة الهجرية مسابقة عـمّن قال فيه خير البشر: "لا تؤمـن حتى أكون أحب إليك من نفسك".
"وامْــسْـطـي هــذا ..!!"، أكيد سيقولـها أكثر من قارئ للعـمود؛ لكن أدعوه للتراجـع عن حـكمه لأني قلت آنفـاً "حالـمـا"؛ أي من باب الحلم، لأني أدرى بـمن يحـرك دواليب الإعـلام في شموليته، ولست أبـلهـا حتى أنتظـر من جهـة تقـديم خدمة للوطن والدين من غير ربح مـادي تبتغيه الـمسابقة.
لا أزعـم أن هـكذا توجهـات يبغي من خلالهـا المشرفون خدمة الآخرين من دون خدمة الوطن، فالأمر لا يبتعد من بُـغـية خدمةِ الذات؛ من ربح وتحقيق نسبة مشاهدة في السهرة المقامة وعائدات الرسائل الهاتفية؛ المهنئة بحلول السنة الميلادية الجديدة؛ في وقت أيضـاً نتيجـةُ المعادلة تـؤكـد أن الرابح الثاني هـم ذوو الأهداف السياسوية؛ بمعنى تتليف الشعب من خلال تــخـذيره بنيكوتين الأمسيات الضخمة حتى تُـمـرر في نفس تلك الأيام القرارات الصعبة.
احتفـاءً بالسنة الميلادية الجديدة يتم التهيئ والاستعـداد والإعلان عن ذلك أيـام بعيدة قبـلاً، وتنفق يومَـهـا أموال طائلة، تأتي من الخزينة "اللي على بالْــكْ".
أما السنة الهجرية؛ والتي لا يـلُــونهـا كما سلف القول أي اهـتمـام، يزداد الأمر سوءاً / إساءة لهـا لمـا يحـل العاشر منهـا، يوم "عاشوراء"؛ إذْ تتحـول معـظـم الشوارع إلى حالة طوارئ، يخشى السائـرُ فيـها عن نفسه من البيض الملطخ بمـاء يلحق ضررا بالإنسان، أو يقـذفـك بـماء تخلّص منه بعد أكسدةٍ وتخزين ثم تسخين، أحـدثـك بعيون المتابـع لاحتفالات / اختلالات يــوم عاشوراء المـاضي، ولا أخفيك أمـر تـدخـل القوات الأمنية أمام بعض المؤسسات التعليمية لثني أبطال الأمة؛ الذين يُظهـرون حِـرفيـةً في الإجـرام وابتكـار عمليات قـد تصـلُـح يومـا للدفـاع عـن الـوطــن ..!!.
ليس مـن بــاب الشوفينية أطرح الموضوع؛ وإن كان حب الوطن من الإيـمان، إنـما خـوفـاً مِــنْ أن تـتـمزق هـويــتُـنـا المغـربيةُ الإسلاميةُ.
سنة سعيدة، هـجرية وميلادية، وكـل عـام والأمة الإنسانية في ســلام.

محمد بوشيخة
mljabri1979@hotmail.com
بجريدة "عيون الجنوب"، العدد: 22 يناير 2011م

تلاميذ الثـانوية الإعدادية، الموز - أورير يـغنون "السـاقية الحمراء" في مظاهرة، دفـاعـاً عن الصحراء المغربية، وضداً على أعدائـها - متابعة صحفية


"بالروح بالدم نفديك ياصحراء"، و "أغنية الساقية الحمراء"، ثم شعارات أخرى، رددتهـا حنـاجر تلاميذ الثانوية الإعـدادية الموز - أورير، يوم: 30 نونبر 2010م، صباحاً، بدءاً من الساعة العاشرة؛ لأجـل نصرة الصحراء المغربية، وما طالهـا من مس إعـلامي إسباني، وتنديدا بالأحداث التي شهدتها مدينة العيون.
الـمظاهرة كساهـا ماينعت بــ"الفوضى المنظمة" .. فـــوضى لغياب التنظيم بين صفوف الناشئة؛ ولأنهم لم يكتفـوا بالتنديد داخل فضاء المؤسسة؛ إنما اخترقوا بابهـا خارجين نحو المؤسسة التأهيلية – أورير مُـلحقين بها في شكل غير مسؤول بعض الأضرار المادية، كما صرح للجريدة مصدر مقرب من الحدث ..
مــنـظمــة لأنها في الأول والأخير تكشف عن دافع حب الوطن.

محمد بوشيخة
نـشرت الـمتابعة بجريدة "عيون الجنوب"، عدد: 22، يناير 2011م.

الحق في الوصول إلى المـعلـومات - متـابعة صحفية بـأكـادير

درسٌ افــتتاحي ألـقـاه الـشاعــرُ الإعـلامي عبد الرفــيـــع جـواهـري بـمركب جـمال الدرة من تـنظيم معهد الصحافة بتنسيق مع جمعية الإعـلاميين الشباب.

18 دجنبر 2010م، بقاعة مركب جمال الدرة، عند الساعة 17:00 مساء، شرع عبد الرفيع جـواهـري في تقديم درسـه، بعد أن قــدم للموضوع أحـد أساتذة معهـد الصـحـافة وعـرف بـالشـاعر الإعـلامي الأسـتـاذُ أحـمـد الـطـالبي.
أشـار الـمـقـدم إلى أن درس هـذه السنة إعـلامي مغطى بإطار قـانوني، مشيراً أن الوقت قد حـان لإخـراج ضـوابط قـانونية، تساير هـذا الانـفـجـار الـــواضح الذي بات يعيشه عـالم اليوم.
الـمحـاضر عبد الرفيع جواهري بادئ الأمر وبعد التعبير عن سعادته لتواجده بين أحضان الأكاديريين، أشار بعدم دقّـة كلمة "الـــوصـول"، الواردة في العنوان، وضرورة تبديلـها – في رأيه – بــكلمة: "الـحصــول"، لـيـعـدوَ الـعنوان: "الــحــق فــي الــحصــول على المعلومات"، بدليل أنه بإمكان الصحفي الوصول إلى مصدر المعلومة، دون أن يحصل عليهـا.
اعتبر مسألة التمكن من المعلومة حـقـا إنسانيا يندرج ضمن حق التعبير، وإذا وُوجـه الطالب للمعلومة برفض المطلوب، له الحق في التشكي إلى جهة إدارية؛ تلك المكلفة بالبث في النوازل.
يـؤكد الـمحاضر على ضرورة وجود قانون ينظم مسألة الحق في الحصول على المعلومـات في المغرب، سيراً على نهـج بعض الدول المتقدمة، رغم ما قدمه من مؤاخذات عـنهـا في مسألة تغليف هذا الحق في دساتيرهـا بمجموعة من الكلمات التضليلية؛ من قبيل: (= للعموم .../ للجميع .../ لكل إنسان الحق في الوصول إلى المعلومات)، معتبرا الصياغة الأمريكية هي المثال: "الحصول على المعلومة حق أي شخص مهما كانت جنسيته أو بلد منشئه". أما أسوأها بنـد إسبانيا: "للمواطنين ..."؛ مُـظهـرا إبعـادها للمهاجرين.
محاضـرة عبد الرفيع جواهري تـميزت بسلوك منهج أكاديمي في تقديمهـا وبالتدقيق في المفاهيم والمصطلحات؛ كذا المقارنة بينها، غير أن ما أوخـذ عليه عـند فــتــح باب المناقشة هـو تغليفه بعض نقط المحاضرة بـبُـعد إيديولوجي، أمر نفاه المحاضر عند الرد.
دليل ذلك عند مُتـدخلـيْـن تمثيله بشكل ملفت في مسألة التعتيم عن الملفات المتضمنة معلومات الذين طالهم الاغتيال بــــ: "المهدي بن بركة"، إلــى درجة تجرأ المتدخل ووصف المهدي بن بركـة بصفة تعكس كونه مناضلا، وقـبـل أن يُـكمِـل فـكرته عمت القاعة فوضى عارمة، منطقهـا إيديولوجي من كل جانب؛ إذ طالب مناصرو المحاضر مِــن المتكلم / المتدخل سحبَ كلمة "مجرم" وعدم إلصاقها بشخصية بن بركة.
المـحـاضـرُ، ولأن جريدتنا تـتبعت المحاضرة، نعم لم يكلف نفسه بتقديم أمثلة كثيرة تعبر عن التعمد في التعتيم على المعلومات، اللهم ما أشار إليه فيما يخص الانتهاكات الجسيمة، معتبرا إياهـا كتابا لم يطو بعد.

نعم، تعـمّــــد تقديم أمثلة تتقاطع معه أدلوجـــةً بتعبير عبد الله العروي؛ لأنه في الوقت الذي ثَــمّ سـؤاله من طرف متدخل آخر عن قضية عــمر اُوكـان، صاحب الكتاب الأسود لاتحاد كتاب المغرب، وما تضمنه من معلومات، إلى أي حـدّ حقّ لمن تناولهم الكتاب متابعته قـانونــياً ..؟؛ بل وعدم مبالاة الجهات المعنية بالتحقيق فيما ورد في الكتاب ..؟ .. لمـا سُئِل عن ذلك اعتبر ما أتى به الكتاب معلومات قـــد تـــكـون خاطئة.
انتهى اللقاءُ مشحـونـاً، هـدأت أجـواءه معـزوفـةٌ رائـعـةٌ بالعـود قـدمـها أحـدُ العازفين، لتكون نهـاية اللقاء لا كبدايته، لـمـا انتظر الحضور الكثيف؛ من إعلاميين وطلبة وباحثين الشـاعـرَ الإعـلاميَ عبد الرفيع جواهري في القاعة رغم تـأخره عن موعد اللقاء سـاعة كاملة، أمــر اعتذر عنه المحاضــرُ للحضور، ولـمن كانت تلك مؤاخذته.

نُـشر بجريدة عيون الجنوب، العدد: 22، يناير 2011م

تــقـنـياتُ الـسّـردِ ومغـامـراتُ الـتّجريبِ في الـفعـلِ القصصيِّ لـدى مليكة نجيب .. مجموعـة "السّـماوي" نـمـوذجـاً.


أولا: تـمهـيد؛ دروبُـهُ أسـئلةٌ منهـجيةٌ.
نتسـاءلُ بـدايـةً عـن نوع القصة التي تكتبـها مليكة نجيب، أهي الـحديثة أم الـجديدة ..؟، علـمـاً أن الـفرقَ بين الـتُّربتيْـن/ الفارقَ بين النّـوعين ليس كفيـلاً بـأن يجـعـلَ الـقارئ – حسْبَ رأيـنا – بقـادرٍ على تصنيفِ قصص الـمبدعة، علمـاً أيضـاً أن القصـةَ الجديدةَ لاتعني ذاك الارتباطَ الـوثيقَ بـما هو متـأخر زمـناً، "فـما كـلّ متـأخِّــرٍ يحوز صفـتَـهـا ومـاكــلّ متقـدم يضيعـها" (1).
التـفريقُ بين الـنّوعين ليس ترفـاً نـقديـاً؛ إنـما لـما تشـهده الـسّاحةُ النقديةُ أخيراً، في شكل مقالات متفرقة، من استـعمالهـما في وجوه متقـلِّـبة، وكثيراً متشابهة، وإذا كان الـنّوعـان مـعاً يظهـرُ اخـتلافُـهمـا مع "القصة العروضية"، فالأمر بينهمـا لايعدو كذلك؛ إذ سمـاتُهـما الفنيةُ تتـآخى إلاّ فيـما نـذر. فـقـصّــةُ الثمانينيات جعلتْ من مفهوم الـتـجريـب جـواداً تمتطيه؛ ومن ثَـمّ شـكّـلَ هــذا العِـقدُ الزمنيُّ "فضـاءً لانتشـاره بشكـل كبير"(2)، في حين نـوّع قـصّاصو التسعينيات (= القصة الجديدة) من آلاتِـهم وآلياتِ سفرهم الأسلوبية، حتى إنّـهم شـرّحوا النصّ وجـرّبوا في التجريبِ ذاتِـــه، وقد يأتي الحديث لربّما معهم عـن "مابعد التجريب"، ونحن في دولاب مـابعد الـحداثة.
فـالقولُ إنّ القصةَ القصيرةَ في العقدين الأخيرين (= التسعينيات حتى الآن) حـملت رؤيـةً جـديدةً (3) دعـوةٌ صـريحـةٌ أن هـناك تـجاوزاً لقـصّـة الـثـمانينيات، أمـا مـاقبلُ فلا مجال للـجدالِ فـيه؛ وإن كـان من النقاد – عبد الرحيم المودن – من يعـود بتسمية القصة الجديدة، مفهومـاً وبناءً وصياغةً إلى السبعينيات، ويبقى الـجديد في ثيابِ هـذا النوع مـن القَـصِّ فـي مـدى تـحطيـمِـهِ للـنموذج الـتيمـوري على مستوى البناء (4).
ارتبـط مفهومُ القصّـةِ الجديدةِ أيضـاً بـمـحدِّدِ التـحـوُّل؛ فـكـثُـرَ الحـديثُ عـن سـماتِ هـذا الأخـير، فهو الـمرتبـطُ بــ"القصة التي تتأبط المغامرةَ وتـرضـاهـا ديـناً بالمعنى الطقوسي .. وتركبُ موجـةَ التـجريبِ فـتـتّشحُ بسـمات أجناس تعبيرية مجاورة"(5)، وهـو الطوفـانُ الذي شـمِـلَ "الموضوعـاتِ، الصيـغَ، أدواتِ إنجـازِ الفعلِ القصصي"(6)، كما أنه الذي تسـاوقَ و "تـطــــوُّرَ الكتابةِ القصصيةِ النسائيةِ؛ حيث أصبحت ماتكتبه الكاتباتُ أكثر جـرأةً وأكـثرَ محافـظةً على الأدواتِ الفنيةِ"(7).
فـي الضفّـةِ الأخـرى هـنالك مَـنْ يـعتـبرُ الـتـحوُّلَ ذا جانِـبَـيْـنِ، يمكن أن يـطفُـوَ على السّطـحِ السلبيُّ منه على الإيـجابي، وبـه لايـعدو التحوُّلُ مرادفـاً للتـقـدُّمِ، كـما أنـه "ليس كـلّ مَـنْ يـكتب القصة حـاليـاً يكتب القصة التجريبية، ذلك أنه في نفس الفترة التاريخية قد تتعايش مـخـتلِـفُ أنـماطِ الكتابةِ القصصية"(8). ويذهبُ الناقدُ عبد العاطي الزياني في درسِـهِ وتـدارُسِـه لهـذا التحـوّلِ إلى حـدِّ التحـذير من مغـبّةِ التجريبِ دونـما أشرعـةٍ محكـمةٍ؛ "لأنّ قـدْراً وافـراً من المحاولاتِ القصصية ظلتْ تـمارسُ ركـضـاً مجّـانياً أحياناً وراء التقنياتِ والأدواتِ التجميليةِ دونما وفاءٍ حقيقيٍّ بشـروطِ الكتابةِ ومسـؤوليـاتهـا الفنية"(9)، مما قد يجعل من "حقـلِ القصة القصيرة أرضـاً لامـالك لـهـا"(10).
هـذه الأضـواءُ الحـمراءُ، كمـا هذا التوصيف المباشر لـحالة القصة القصيرة الجديدة وأحوال مريديـها، ألا يعـدو مدعاةً لـسـكِّ تقنيـنٍ ورغـبةً في حبـسِ أنـفاسَ تـتشـرّبُ مـن شعـار العوفي "لكـلِّ كاتبٍ الحق فـي أن يـخلقَ مايستطيع من الأشـكالِ التي لاتـوجـدُ في الأدبِ"(11).

ثــانيـاً: مغـامراتُ التّجريبِ من خلال تقنياتٍ سرديةٍ عـدّةٍ.
أولاً، وتحقيقـاً للرّبـطِ بين ماسبقَ، لأجـلِ تَــبَــيُّــنِـهِ في مكتوبِ مليكة نجيب، وبين علاقة ذلك كـلّـه بالكتابة النسائية، نـودُّ الإشـارةَ إلى أمـرٍ استـوقفنـا إثـرَ حديثِ العوفي في كتابه "مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية" عن العروضِ القصصي وتقسـيمِــهِ للنصوص التي تـمثّـلُهُ من حيثُ بُـناها السرديةُ إلى: نصوص ذات بنية مثلثة / مستديرة / حلزونية / خطيّة، فكان النّـوعُ الأخيرُ، الخطّي أو اللاّبنائي بمـثابةِ "بنيةٍ جنينيّةٍ وسديميّةٍ لم تـتخـلّق ولم تختـمر بـعدُ، هي مـشروعُ بنية"(12)، وكان أيضـاً أن مـثّـلَ الناقـدُ لهـذا النّـوعِ بنصوصٍ نسـائيـةٍ؛ "بداية الطريق" و "الشيخ والأرض" لخناتة بنونة ثم "أمطار" لرفيقة الطبيعة، وكأنّ لسان حاله يحدثنـا إضمـاراً عـن سبقِ المرأةِ الكاتبةِ لهـذه المغامرةِ من التجريبِ. نـعــم، النصوصُ نوعٌ ضمن العروض القصصي، لكنها تنحـو في اتجـاه تأسيس مشروعٍ لم تتّـضح معـالـمُـهُ بـعـدُ، فهـي "صنـيـعٌ يشـكِّـلُ استـفزازاً لـما هـو مألوفٌ ومعـروفٌ من قـواعـدَ وقـوانينَ سـرديةٍ وبنائيةٍ، ودعـوة غير واعية أو غير مباشرة لإعـادةِ صيـاغةِ وتـجديدِ الأسـئلةِ القصصية"(13).
ثـانيا: التقنياتُ السرديــــةُ.
أ‌-     تقنيةُ الـحـوارِ:
قـد يطغى الـحوارُ مع النصوص القصصية العروضية وقد يكتسي صبـغـةَ الـحـضورِ الـمحـتشِـم، وفي الـحالتـيْـن مـعاً يُـشَـرعـنُ الـحديثُ عـن حوارٍ مـؤسِّـسٍ للـسّـردِ أو مـتمِّـمٍ لـه؛ بتعبير نجيب العوفي.
ولأنّ القـصّـةَ الجديدةَ مـجرِّبـةٌ في كـلِّ تجـليـاتِـها السرديّـة، كذلك الأمـرُ مـسّ تقنيةَ الحوار، فبات هذا الأخير مـتداخـلاً ومُـتماوِجـاً مـع الـسّـرد، وجاز الـقولُ إننـا مع: حوار سردي أو سرد حواري.
الـحوارُ عـند مليكة نجيب هو أشـبهُ بـالحوار المتأثـر بنظرية التحليل النفسي، أليست تركيبـتُهُ داخـل نـص "الثدي الملفوف" دليـلاً عـن ذلك ..؟، ثم ألا يجوز نـعـتُـهُ بــ: "الحوار المخـلوط بالارتجاع الفني" = تقنية الاسترجاع؛ "التي تلجأ إليها الشخصيةُ القصصيةُ حين تسترجـع، عبر التذكـر، أحـداثـاً فـتدخـلُ في نظـام جديد من الزمـن"(14). ورد في المجموعة: "أتـذكّـرُ الآن ثـورةَ زوجـي وأوامـرَه الـحانقـةَ بمحـو آثـار الـحنّـاء، أكّـد أنه يمقتُ لونهـا، رائحـتَـها، بصـماتٍ قد تتركـها على جسده أو على الفـراش ..."(15)، وفي مقطعٍ آخــر: "فرحتُ عـندمـا بدأ صدري يتحرّكُ وينمو وبدأتُ ألبِـسُ حـمّـالةَ نهـديْـنِ من مـسـد، انتشيتُ وأنا أرعى براعـم أنثى تتفـتّـح وتتوقُ لـمستـقبـلٍِ فيّـاضٍ بـالعـطاء والـحبِّ"(16)، والأمثلة عـن هـذا كـثيرةٌ.
يُـعـايِـنُ الـقارئُ ضمن نصِّ "الثـدي الملفوف" تمـازجـاً؛ إن لم نقـل انصهـاراً واضحـاً بين السرد والحوار؛ إذْ غـالبـاً مـايـفسَـحُ الـمحاوِرُ – الساردُ للـمحـاوَر الساردِ  فسـحةَ الـسّردِ، حتى يـظـنّ الـقارئُ أنّـه مع سـردٍ خـالِصٍ؛ لـيُـفـاجِـئـه تقـطيـعٌ يُـكـسِّـر اعـتقـادَهُ.
الـمـحاوَرُ – السّـاردُ في هـذا النص مـثلاً يمتطي جوادَ الحكي ضمنَ خمسِ فِـقْـراتٍ متتابعـةٍ، على طول مقاسِـها الـسّطري، "أتـذكـر أن زوجي عـاف الحـنّاءَ، وعاف مضجعي (........ إلى ......) حملتُ رضيعي بين رموشي وحلقتُ بـه فوق أشجـار مضيئة الأغصان تناسيتُ معها السرداب الحالك (= صفْـحات: 62 – 63 – 64، من قصة الثدي الملفوف)، ليُـصْفَـعَ بـعدهـا القـارئ، تقطيـعاً لخـطيّـة السّـردِ الـحوارِ بـــ "كيف تنغّصت حـياتُــكِ بعـد هـذه السـعادة؟ هل لبعض الأطراف يـد في بلبلة سكينتك؟"(17).
يَـظهـرُ إذن أن الـسّـردَ يـقوم بـــ "دور تبـادل الـمنفـعةِ مـع الحوار فـي تفـاعُـلٍ وانسـجامٍ لكـسْـرِ الـتّـعاقبِ الـمتسلسِلِ المُـثيـرِ للإيقـاعِ الرتيب الناشئ عن تناوبِ شخـصيتيْن على الـحدث"(18)، عـدا في مقطـعٍ واحـدٍ داخـل نصٍّ بـأكـملِهِ؛ ذاك المـعتـمِـد على الـعلامة المِتيبوغرافية المتتالية(19).
استـخدامُ الضّمـيرِ في صِــيَـغِهِ الثلاثـةِ، المتكلم/ الغائب/ المخاطب، داخلَ شبكـةِ النصِّ الـواحـدِ، في نـــوعٍ مـن التّـراتُبيةِ الـمحـسُوبةِ أحـياناً، يُـكسِبُ النصَّ طـابَــعَ الاختلافِ عن النصوص التي يهيمنُ فيها ضمـيرٌ عـن آخـر(20) .. يتجلّى هذا الاستخـدامُ المتنوعُ بوضوح في نـصّـيْ: "جثة بالمزاد" و "الثدي الملفوف"(21).
كـلّ هـذه الاعـتباراتِ السابقـة، إذن، تـجعـلُ من الحوار عند مليكة نجيب "يلتبسُ ببنيةِ السردِ فيندمج بـها، مؤديِّـاً إلى صياغةٍ سرديةٍ مـوحّـدةٍ، ويكون الكلامُ غير المباشر من الحوار أكـثـر اندمـاجاً بالسّردِ"(22).
ب‌-           تقـنيـةُ تـوظيفِ التـراث/ الثقافة الشعبية:
اسـتعـمالُ الدّارجي في اللّعبةِ القصصيةِ ليس جديداً، إنّمـا توظيفُه بـحَـمولتِهِ الطقوسيةِ؛ لأجـلِ إكسابِ النص بُـعْـداً عـميقـاً في امتدادِهِ الزمني والديني هـو الطّـفــرةُ التي تُـكسِـبُـهُ جِـدّةً:
"آرجالْ البْلادْ، آمولاي بوشعيبْ، آللا عائشة البحرية، أحموني راني في داركم"، ص: 11، قصة السماوي.
"الـطـيّـارة طِــيـرِي بِـــيّـــا   **   عند سيد النبي العْزيز عليّ"، ص: 12، قصة السماوي.
المقطعان معـاً، يعودان بالقارئ إلى تلك التعويذاتِ الخرافيةِ للجـدّاتِ، كما عـاد بالساردةِ – البطلةِ داخلَ فضاء نص السماوي بفعـل "تيمة التذكـر" إلى دهـاليزِ جـدّتـها.
ليس فقط بـدافعِ الاستعـمال الدّارجي يُـدركُ الـقارئُ ذاك الامتداد وتلك العلاقة التي تجمع بين الساردة وجدّتِـها؛ إنّـما يتبدّى ذلك من خـلال:
-         نشاطات يدويـــة: غزلُ الصّـوف مثلا "تتنقّـلُ الكوماتُ الناصعةُ البياض من خـارجِ الـطائرةِ إلى رأسـها لتحملها إلى كومات صوف ترعرعت بين أحضانها ..."(23).
-         استـحضارُ مقاماتِ الأولياءِ وماله علاقـةٌ بتلك الكرامات، في صياغةٍ لاتخـلو من سخـرية: "تـدافـع الـجدّةُ عـن ذلك ولا تتردّدُ في انتـزاعِ نعـلهـا وتلمَـسُ قـدمـيْـها بلطفٍ متسـائـلةً: أليست هـاته أقـدام صبيةٍ؟ اقتربي، المسي بيديْـكِ، برفقٍ، حتى لاتخدشي ليونتَـها بـأظافرك"(24).
وليَـتَـوَضّـحَ لـنا أكـثرَ بُـعْـدُ "تيمة التـذكر"؛ الذي يحتفي بــه نـصُّ "السّماوي"، نـقرأ "يتنـقّـلُ خـاطـرُ الـحفيـدةِ من أحضانِ الـجدة الضارب في الزمان، ويعود على أعقابه مرتبكـاً لذكر الموت ليلتحقَ بصاحبته التي عدلت من جلستِـها، وسحبت من عينها قطعــةَ الثـوبِ"(25).
وفـي شكـلِ احـتفاءٍ غـنائي باللغة الدارجة، داخل النص القصصي تخـتمُ الـقـاصّـةُ نصَّ السماوي بمقـطعٍ قـد يشكـلُ بـؤرةً للنص كـلِّـهِ .. تقنيةٌ يشتغـلُ عليـها كتابٌ آخرون جـدُد وهم يمتطون جواد التجريب، القاص عبد العزيز الراشدي مثلاً في نص: "دموع القـمر"، يختلفـان فقط في الابتداء بالمقطـعِ أو الانتـهاءِ إليه أو جعـله جـناحَـيْ النص؛ في البداية والنهاية معـاً.
ج- الاشتغـالُ على الـبُـعْـدِ اللُّـغوي سيـمـائيـاً:
لـمّا نـقرأ للـكاتبة: "عـندمـا دلفـتْ من باب الطائرةِ مُنحنـيةً كي لاتصطدم قـمةُ رأسِـها بالسقف، شعُـرت بالطائرة سمكةَ قرشٍ"(26)، أو قـولُـها، ضمن نفس القصة "وضعت فـوق عينيْـها قطـعةَ قـماشٍ تسـاعـدُها على الارتـخاء، ورأت بعد ذلك السّوادَ يتخـلّـل الـمجالَ الضيِّـقَ لأحشـاءِ الـقِرشِ" .. قلتُ لـما نقرأ هذا نستحـضرُ عـلاقةً سيميائيـةً تربطُ بين: الطائرة + القرش + السّماوي (= العنوان).
الطّـــائـرة: (للتدليل على الطيران في فضاءٍ أعلى، قرب السّما؛ تعبيراً لا واقعـاً) = السمـــاوي: (فيزيائـياً، مكـوِّنٌ لـه عـلاقـةٌ بالسماء) = القِـرش: (يتخـذ اللونَ الأزرقَ في هذه العلاقة السيميائية الثلاثية).
تجـمعُ بين الـمكــوِّنيْـن: الطائرة والقِـرش في العلاقـةِ بـالعنوان ركـيـزتـا: الشكـل و العبور، كـما اسـتدعـاء، في شكـل تناصٍّ موضوعـاتي، لقضيّـةٍ اجتماعيةٍ "الحْريـكْ"، "شـعرتْ بالطائرةِ سمكةَ قـرشٍ تبتـلعُ كائنـاتٍ تـقـدّمُ نفـسَـها قـربـاناً بكل إرادةٍ ورغـبةٍ"(27).
د- تقـنيةُ الـميـتاقـص:
تـظـهرُ هـذه اللغـة الـمعـجونة بالأفـكارِ أو التنـظير فـي قـوالبَ مختلفةٍ عند الكاتبة مليكة نجيب، فهي تارةً اشـتغـالٌ على موضوعـةٍ معيّنةٍ، داخـلَ فضاءِ النصّ القصصي، تيمة الأسمـاء مثلاً في قصة "يوم السّـعد"، نمثل لهذا التمظهـرِ من خلال الجدولة والامتداد التاليين:
الـمقاطع من النص
الصفحة
بُـعـدُها الـدّلالي
اسم يمتد شامخاً متحدياً / للأسماء بطش وجاه
19 / 21
المكانة والنفوذ
وربما للأسماء تأثير غامض على شخصياتنا واختياراتنا في الـحياة.
19
التحقير والتصغير
ألقابُـنا جـزء مـنا، تتحكـم في هـويتنـا وقد نصير كائنات غير موجودة بدونـها.
20
تأثير اللقب على الإسم
   - أسماء الأنترنت؛ في نوعٍ من السخرية من استعمالهـا، واكتشافِ لـعبـتِهـا، المرتبطـةِ أحيانـاً بـاللاواقـع "تنّينٌ يضـاجِـعُ سـلحفـاةً"(28) والحلمِ أحيانا أخرى: "هي تقـدّسُ لـغةَ الـضّـاد، وتحلم بأن تتوحّـدَ المفردات والمعاني لمواجهة التأويلات التي تُـتعِـبُـها" (29).
- أسماء الأبراج؛ فـي قـولبةِ الـقَلبِ؛ إذِ العـقربُ تنكمشُ والعـذراءُ تتعـهّـرُ والأسـدُ يـركـعُ، لتركـعَ معه الشـخصيـةُ القصصيةُ هي الأخرى؛ إذ هـو بُـرجـها.
يتـوضّـحُ اشتـغـالُ الكاتبة على "تيمة الإسم" أكـثــرَ في قالبٍ قصصي، من منطـلَـقِ اللغة الميتاقصية لـمّا تـذهبُ إلى حـدِّ الـقولِ على لسانِ الشخصيةِ القصصيةِ "ضيـاعُ المنعـوت بين تـعدّد واختلافِ النعـوتِ. وضياع الزمن في فـكِّ طـلاسمِ الـمفـهومِ"(30)، بعـده تترجّـل أسـلوبـاً، لتتوقّفَ عـند أسـماء بعينـها، مُـحـاوِلةً تشـريحَ جـسـدهـا، وفـكّ طلاسمِـها (العاطفة/ السياسة/ البيت)، في علاقتـها بـعنوان القصة يوم السعـد؛ المرتبط أسـاسـاً بمنطِـقِ: "للأسماء بطشٌ وجـاهٌ".
من جانبٍ آخـرَ، وبعـيداً عن الاشتغـال على تيمـةٍ مـا، داخـلَ نصٍّ قصصي، تتمظـهر تقنيةُ الـميتـاقص في محاولةٍ من الكاتبةِ خـلقَ جِـسْـرِ تواصُـلٍ مباشرٍ بينها وبين المتلقي، لتُـقـدِّمَ لـه أفـكارَ من خزانةِ مقـروئِـها الثقـافي، أكـيـدٌ، في عـلاقـةٍ متماهيـةٍ مـع فـكرةِ النص القصصي، مثـلاً لاحصـــراً:
"يذهبُ الطبُّ النفسيُّ إلى أن الأطفالَ أبـداً لاينسون المعاملةَ والتربيةَ التي يتلقونـها"،ص: 57، من قصة "الثدي الملفوف".
"يذهبُ بعـضُ عـلمـاءِ النفسِ إلى أن الأنثى نقيصـةٌ وأن الذكـر كـمالٌ"، ص: 58، من نفس القصة.
هـذه إذن أفـكارُ نقـديةٌ في سِـردابِ الحكي القصصي نفسِـهِ دون خروجٍ عن موضوعِ القصة التي تحوي تلك المقاطع فـي محاولة من الكاتبة - أيـضا - إضـفاءَ مـصداقـيةٍ ما على الفكرةِ – القـصّةِ، وسـعيـاً لأجــل "بناءِ نـوعٍ من التلقّـي الـشـفّـاف؛ بحيث تتضـمّنُ الـقصّـةُ حـواراً موازيـاً بين الكاتب والقـارئ"(31).

ثـالـثاً: خـاتـمة؛ عنـوانُـها "عـلى صهـوةِ جـوادِ التّـجريبِ تنـشُـدُ مليكة نجيب قـصّةَ "مابـعد التجريب".
هـو الـنـصُّ وحـدَهُ يـخـــوِّلُ لـصاحـبِـهِ تـأشيرةَ الـعُـبـورِ إلى ضفّـةٍ أخـرى مـن نـوعِ الـحكي .. هـي المغامراتُ ،أو دونَـها، فقـط كفيـلـةٌ بـأن تـجـعلَ مـن هـذا الـكاتبِ قـاصّـاً تـجريبـيـاً وذاك قـاصّـاً يظـلُّ عـروضـياً، وآخـــر، في غيابِ كــلِّ ذلـك، لا بـهذا ولا بــذاك.
لـم تكـن الكاتبةُ مليـكة نجيب لتـحفُـرَ أخـاديـدَ عُـضـوٍ دون آخــرَ مـن جـسـدِ الـقـصّـةِ؛ بـل سعـتْ إلـى خـلقِ "شـكلٍ آخـرَ للتـنوُّع فــي (مجـملِ) الـحكي الذي يلتقـطُ حـرارةَ مخـتـلِـفِ أصـواتِ الـمتـخـيّـلِ، والـتمـثـيلات الـدقيقة للأنـا ومـسـاحـاتِـهـا الــلامـحدودة"(32)، ذلك مـانبغـي الإشـارةَ إليـه بـاقتـضابٍ فـي النِّـقط الـتالية، كإضـافاتٍ نوعيـةٍ للـتِّـقـنياتِ الـسّـابـقـةِ:
أ- احـتفـاءً بــالمـكـانِ وتـذويبَ اعـتبارِهِ ركـيـزةً فـي بـناءِ القـصّـةِ، نجـدُ الـكاتبـةَ تتـعـمّـدُ تَـبْـئِـرتَـهُ عـنـوانـاً لــنصِّ "غـرفـةِ الـنّـومِ"؛ الفـضـاءُ الـضـيّـقُ مَسَـاحـةً الذي يـشهـدُ مَـسْـرَحَـــةَ فعــلِ الـرّغـبةِ فـي الانــتـحـار و "وضــعِ نهـايـةٍ لـمسيـرةٍ طـويـلةٍ مـن الـعـذابـاتِ النـفسـيةِ والأزْمـاتِ الـتي تـقـضُّ راحـةَ (الشخصيةِ البطلةِ فيه)"(33). كـل أحـداثِ هـذا القـصّـةِ ظلّـت تُـراوحُ هـذا الـفضـاء؛ بـل إنّ عـناصـرَهُ بالأسـاسِ هـي التي تؤثــتُ لـعبـةَ الـسّـردِ فـي الـنصِّ، وصـفـاً وحكـياً، تخييلاً وواقـعاً.
ب- احـتفاءً بــالهامش وتسـليطَ الضـوءِ عـلى عـالمِ الـمهـمّشين، نجـد أنّ قـصّـةَ "المنزل رقم 16"، هي منزلُ حكيٍ عـن حياة الخادماتِ، ووضـعِـهـنّ، ومـغامراتِـهـنّ، كـما أنه، ومن خلال ذلك، تعـريـةٌ في صيـغة القلبِ لحـياةِ سيداتِ البيوتِ وأسـيادِهـا، وما يتخبطون فيه من مـآزقَ حياتيةٍ، تعـادلُ أو تفـوق بـؤسَ الخـادمات أحـيـانـاً؛ إذْ "ليس كـل هـادئ مـرتـاح، فغـالبـاً – تضيفُ الساردةُ ضمن مقطعٍ سردي – مـانـخـطـئ عند إصـدار أحكـامـنا على الأشـخاص والأشيـاء من خلال مـانراهُ؛ إذ يكون الـهدوء غـشـاوةً يـخفي هـيجـانـاً وهَـمّـاً دفـيـنـاً"(34).
ج- يـشـكِّـلُ الاسـتبـاقُ ضـمن نص "غرفةِ النّـوم" حـبلَ الـحكي، مشـاهـدُ استبـاقيةٌ على طـول خـطَّ السـرد؛ إجـابةً عـن سـؤال: كيف سيتلقّـى الآخـرُ خـبرَ انتحـارِ الشخصيةِ البطلةِ في النص.
أخـيراً، ينـكشِـفُ أنّ الـكاتـبةَ مليـكة نجيب خَـطَتْ خُــطْـواتٍ شـاسـعـةَ الـمـدى في مـغامراتِ الـتجريبِ، وتـجـربــتُـها بذلك تـنـضافُ إلى تـجاربَ أخـرى مسّـت بكـتاباتِـها وآلـياتِ اشـتغـالـها أركـان مخـتلفـة مـن جـسـدِ الـقـصة المغـربية.

................................. =  الـهـامش  = ..............................

(1): الحبيب الدايم ربي، في حوار معه عن القصة القصيرة الجديدة؛ كتاب أفروديت، عدد مارس 2006م، الطبعة 1، ص:60.
(2): نجاة الزبـاير، همس اليراع، كتاب أفروديت، عدد مارس 2006م، الطبعة 1، ص: 13.
(3): نفسُـه، ص: 14.
(4): عبد الرحيم مؤدن، كتاب أفروديت، عدد مارس 2006م، الطبعة 1، ص: 56.
(5): عبد العاطي الزياني، كتاب: "السرد والتأويل: دراسات في الرواية والقصة" الطبعة الأولى: نونبر: 2009م، ص: 47.
(6): محمد معتصم، كتاب أفروديت، عدد مارس 2006م، الطبعة 1، ص: 48.
(7): نجاة الزبـاير، همس اليراع، كتاب أفروديت، عدد مارس 2006م، الطبعة 1، ص: 15.
(8): ليلى الشافعي، في حوار معها عن القصة القصيرة الجديدة؛ كتاب أفروديت، عدد مارس 2006م، الطبعة 1، ص:54.
(9): عبد العاطي الزياني، كـتـابُــهُ السابـق، ص: 48.
(10): الحبيب الدايم ربي، كتاب أفروديت، مرجع سابق، ص:60.
(11): نجيب العوفي، كتاب أفروديت، مرجع سابق، ص: 47.
(12): نجيب العوفي "مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية؛ من التأسيس إلى التجنيس"، الطبعة الأولى: 1987، ص: 499.
(13): نفـسُـهُ، صص: 498 – 499.
(14): علي عـوّاد: "الحوار القصصي من الوظيفة التواصلية إلى الوظيفة الشعرية"،.
(15): قصة "الثدي الملفوف"، مجموعة "السماوي"، صص: 59 – 60.
(16): نفسُـهُ، ص: 56.
(17): نفـسُـهُ، ص: 64.
(18): علي عـواد، مرجـع سـابق.
(19): المقطع الوارد الصفحة: 60، به علامات متيبوغرافية متتابعة.
(20): نص "غرفة النوم" مثلاً هيمن فيه ضميرُ الغائبِ في لغةِ النص السردية، وبقي التجريبُ في تقنية استعمالِ الضمائر عن هذا النص بعيـد.
(21): اُنظر خصِّيصــاً توالي الضمائر في المقطع الوارد ص: 29 (كان يعشق .... = الغائب/ سأعود ظافراً ..... = المتكلم/ لاتخلفي الموعـدَ = المخاطب).
(22): علي عـواد، مرجـع سـابق.
(23): قصة "السماوي"، ص: 11.
(24): نفسـُهُ، ص: 15.
(25): نفسـُهُ، ص: 15.
(26) و (27): نفسه، ص: 9.
(28): قصة "يوم السعد"، ص: 20.
(29): نفسُـهُ، ص: 22.
(30): نفسُـهُ، ص: 23.
(31): عبد المجيد جحفة، في حوار له مع أحمد بوزفور، الزرافة المشتعلة؛ قراءات في القصة المغربية الحديثة، الطبعة الأولى: 2000م، ص: 159.
(32): النـاشر لمجموعة "السماوي" = "منشورات القلم"، ورد بالصفحة الرابعة.
(33): قـصة "غرفة النوم"، ص: 37.
(34): قصة: "المنزل رقم 16"، ص: 76.
.................................................
·        مجموعة السماوي، منشورات القلم المغربي، الطبعة الأولى: 2006م، مطبعة دار القرويين، تتكون من ثلاثة وتسعين صفحة، وتضم تـسع قصص: (السماوي / يوم السعد / جثة بالمزاد / غرفة النوم / طلطيوش / الثدي الملفوف / المنزل رقم 16 / وتلك الأيام / الاستفسار).

..............................
محمد بوشيخة
كاتب من المغرب

نُـشـر بمجلة "البيان" بالكويت، العدد: 483 – أكتوبر 2010، صفحات: 47 – 54.

الأحد، 2 يناير 2011

حـب جــديــد - قصة قصيرة جـدا


بـعـد تـلك الــحـادثـةِ الـمشـؤومـةِ شُــلّ دمـاغُـــهُ ...
انـتزعـوا قـلـبـه – دون عـلمـه – فـي ذلـك الـمسـتشفى الـمشؤوم ...
وهـو الـمُـحـتـاج إلى قلب آخـر، بـعـد أن هـاجرت بـقـلـبه حـبـيبـتُـهُ إثــر  ر  سكـتـةٍ قلبيةٍ، زرعـوا لـه القلبَ الـمسروقَ.
استفـاق بـعد غـيبوبـةٍ طويـلةٍ وطـويلـةٍ جـدّاً، لينعـمَ بـحيـاةٍ جديـدةٍ مـع قلبٍ جديـدٍ وحبّ جـديـدٍ


محمد بوشيخة

قــاص وناقد من جنوب المغرب



عجـائبُ وغـرائبُ فـي البحثِ عن شريكةِ الحياةِ بإقليمَـيْ طـاطـا وزاكورة، تغطِّيهـا تعاليـمُ وهـميةٌ وتغـلِّفُـها خِـصالُ عنصـريةٌ - دراسة نقدية سوسيوثقافية


تقـديمٌ لابـدّ منـهُ:

على إثـرِ الملف الذي نُشِـرَ بجريدة عيون الجنوب، العدد الخامس، غشت 2009م، والمتعـلّق بـ: "العنصرية في المغرب، طاطا نموذجـاً"، ولأنّي طُلِـبتُ للمشاركةِ ضمن تحقيق صِحفيٍّ عن طقوس الزواج بمدن المغرب، وما يرتبط بها، سيُـنشَرُ لاحقـاً ضمن مجلةٍ أسـريةٍ خليجيةٍ من قِبَـلِ الكاتبة الباحثة الوجدية سعاد درير، ارتأيتُ أن أنشُـرَ ردودي عليها ضمن هذه الجريدة.

تغطيتي هنا ورأيي في الموضوع يتوقفان عـند "ظاهرة البحث عن شريكة الحياة بإقليمَـيْ طاطا وزاكورة وما يشوبُها من تعاليم وهمية بالية ويؤثر فيها من عادات بِدائية"، أما ماستنشرُهُ الكاتبة ضمن المجلة الخليجية فهو إلى جانب هذه النقطة يتناول نِقـطاً أخرى مرتبطةً بـ" ليلة الزفاف، قاعة الـحفْلات، الدْفُوعْ، الحـنّة، البَكارة وعلاقتها بالشرف، حْبْ الرّاسْ ..."، كلُّ هذا طبعاً إلى جانب مااستقـرَأتْـهُ الكاتبةُ في الموضوع في جـلِّ المدن المغربية سيشكّـلُ تغطيةً معرفيةً للقارئ العربي بله المغربي.

في الواقع هنالك مقالاتٌ بالكثرة مُنجَـزَةٌ، تشكّـلُ المناهج السوسيوثقافية وكذا السوسيونفسية منطلَقاً لها لم نُـرد أن نثيرَها قبلاً أو في هذه الآونة، تجنّباً -لاخشيةً من ردود أفعال- مِنْ أن نُحيـي نَـعْراتٍ دفينـةً مريضةً في نفوس بعض القبائل وأحياناً بين أسر القبيلة الواحدة، حتى ينضُـجَ الوعـيُ - وإنْ هذا بعيد المنال -، أو يتقبل المعنيون على الأقل التحولات التي مسّت وتمس عدة جوانب رغمَ عُـلُوّ الأنوفِ دون كعبٍ، مقالات لانريد بسطها حتى حين، حتى لايحدث مثل ماحدث في إحدى القرى التابعة لدائرة أقاايغان – طاطا، لـمّا أراد أطيافُ عِـرقٍ/ لونٍ وبالإجماع مقاطعةَ وعـزلَ أسرةٍ واحدة تنتمي لعرقٍ آخـر، فقط لأنّ الأخيرةَ أحسّت بغُـبنٍ لـمّا قَبِلتْ تزويجَ ابنتها البيضاء لشابٍّ ذي سحنة سمراء تعلوها مسحة بيضاء، وبعد رؤية أم الأخير ومعرفة أنها ذات بشرة سمراء مختلفة عن التي لابنها، أرادت أسرة الفتاة التراجع عـن الـقَبول رغم عِلمِ الكثيرين به، فما كان من عائلة الشاب لعِـزَّةٍ في نفسها إلا أن تقبَـلَ التراجع، لكن بشرط أنْ تعتبر أسرةُ البنتِ حالها وحيدةً وفي مقاطعة تامة مع أسرة الشاب، بل ومع أُسَـرِ عرقِـه كـلّهم.
ولأن موازين القوى اختلّت مـذ زمـن بعيد، ولم تعد حِكراً بحقّ أو بدونه على جنسٍ دون آخـر، لم يكن أمام الأسرة المغلوبة على أمرها إلا الخضوعَ والاستجابةَ، وإعادة الأمور إلى مجاريها والتراجع عن التراجع وتتمة الزواج.

لـماذا ننتظر حتى يحـلَّ بنا الضّعفُ لنؤمنَ بالقيـم ..!؟، أَوَليسَ في النهـاية كـل الطاطويين بِيضاً وسوداً ضحيةَ عنصريةٍ سياسويةٍ إقصائيةٍ ..!؟، أو بمعنى آخـر "شْكونْ ادّاهـا فينـا بيضاً أو سوداً"، أليس الجهـلُ والأمـيةُ والفقرُ والتهميشُ، كل هذا وغيره كـافٍ لنلتفتَ لحقائق أنفسنا، ونـردّد جميـعاً: "أنْ كفـى اعتبارنـا لعبـةً بين أيادي السياسويين؛ فَـمَـنْ غيرهم زرعَ ويزرعُ فينا هذه الفِـتَـن، إليك أيّها القارئُ ماهو واضح في الموضوع وماخفي منه أعـظم ..!؟.

أولاً- مسألة اختيار شريكة الحياة:

أولُ المسالك خطورةً تطأها قدما الرجل الزاكوري والطاطاوي تكمن في اختيار الشريكة، أما هاته فلا رأيَ لها ولا اعتبار؛ إنما السمع والطاعة لما يُقرّراه الأبوان.
وضعُ الفتاة في مسألة الاختيار قديما وحديثا له صبغةٌ واحدةٌ، أما الرجل الذي يحقّ له التفكير والبحث عن شريكة مناسبة بشخصِهِ، تظهرُ صورُهُ أخيراً في ظل انتشار الفضائيات وانفتاح المجال والسفر نحو الفضاء المديني الأكثر تحرراً. والأمر غالبا يبقى منحبساً في فـئة مَـنْ حالفهم الحظ وبلغوا التعليم الجامعي، وحتى هؤلاء صنفان: مَـنْ يظل مؤمناً بالتقاليد والتعاليم مهما علا مستواه، ومَـنْ يثورُ لأنه تمـكّن من ترك العنان لعقله وفكره في تجاوز ماسطرهُ الأجداد والآباء.
أغربُ مايلتصقُ بظاهرة البحث عن الشريكة في التربتين هاتين هو التشبت بعادات وتقاليد قديمة جدا، والارتكان لتعاليم ماأنزل الله بها من سلطان، بل وخارج التاريخ حتى ..!.
زاكورة كما طاطا، فُسحـةُ المجال الجَغرافي تجعل قراهما عديدة، فهناك مَـن يتكلم العربية – الدرجة، ومَـنْ تشكل ُ الأمازيغية لهجته الأصل، إلى جانب هذا التصنيف هناك تصنيفاتٌ داخل كل إطار، فالعربُ منهم بزاكورة "الدرعي"؛ يطلقُ عليهم باشتقاق من هذا الإسم "ضْراوة"، ثم مَـنْ سُمّـوا بالشرفاء ، وداخل الأمازيغ أيضاً تفاوتات وتصنيفاتٌ عديدةٌ.
بطاطا يغلبُ ذوو البِـشرة السوداء، مختلطين بالبيض طبعاً، أكثرهم أمازيغ، ومنهم عربٌ رُحّل؛ بلـدة "بوسموم" مثلاً.
في كلا التربتين تتحكم في البحث عن الشريكة إوالياتٌ عِرقية؛ بحسْبِ مـاخُزّنَ في الموروث العقلي للناس من تفاوتات اجتماعية ثم مايرتبط بالفرق في لون البِشرة، علما أنه داخل صنفٍ واحد تجد لونين مختلفين ( أبيض وأسود)، فأمازيغُ طاطا لسانهم ذو لهجة واختلافُ بشرتهم يضع عوائق عويصة بالنسبة للزواج فيما بينهم.
كلُها أمورٌ وغيرها لاتُـعِر للمستوى الثقافي ولا المادي قديماً أيّ اعتبار، إلا مابتنا نشاهده أخيراً من انفلاتات وثورات من قِبَلِ مثقفين ومتحررين من كلا الجنسين، ومن تـمّ قد تجد فتاةً بيضاء اللون بطاطا تُغرمُ بأسمر وتُصارعُ أسرتها لأجل الارتباط به ولو دفع بها الأمر إلى التبرؤ من دمها ومغادرة الأسرة، وأحياناً وهذا حاصل تضطر الفتاة لابتزاز أهلها بتناول مايجعل منها في خطر مفارقة الحياة، وغالبا وهذا أكثر يحصلُ المحظور، الاتفاق على افتضاض البكرة لوضع الجميع أمام أمْرِ وأمَـرِّ الواقع.
ولأنّ المثال سيُضفي على الكلام صِدقاً ومعقوليةً، أحكي لك أستاذة مايُشبهُ الأفلام أو الخرافـةَ، مما أعلـمُهُ من زملاء، وماعاينتُهُ كباحثٍ متتـبّعٍ يشتغـلُ على مثل هذه المواضيع.

قصّتان واقعيتان من زاكورة وقصتان من طاطا، وتبقى القصص الواقعية المرتبطة باختيار الشريكة في المدينتين كثيرة جدّاً، وفي القصص الأربعة سيظهر لك الغريبُ والعجيبُ لحـدّ عدم التصديق، ولحدّ التناقض الصارخ في عقلية المهووسين الموهومين.

أ‌-         "شاب بزاكورة، من العرق الأسمى بها (= كلمة العرق الأسمى هنا كما هو معتَقَـدٌ فقط عند أناس هذا العرق، والأمرُ لي فيه نظر آخر، سأدلي به أخيراً يبقى مرتبطاً بأبعاد تاريخية ونفسية، أما البشرُ جميعُهم فمن أبِ واحد وأم واحدة، وإلا فإننا نخالف الشريعة الإنسانية، ولاأريد أن أقول الإسلامية حتى ..!؛ التي لاتدع مجالا ولاتتيح أدنى فجوةٍ يلتجئ إليها هذا أو ذاك ليذهبُ أنه من الشعب المختار)، هذا الشاب تعلّق قلبُهُ بفتاة من مدينة آسفي، أحبّها وأحبّبته لحدّ تشكّـلِ صورةِ روميو وجوليت بينهما، الشابّ يدرسُ بآسفي والفتاة طبعا بتلك المدينة تقطنُ، بعد مرور سنتين من علاقتهما تفضّلَ الشابُّ "الشريف عرقاً" لخطبتها، بعد إلحاح الفتاة وتشبتها، الأم في القصة مساندةٌ والأبُ رافضاً رفضاً قاطعاً لدرجة تكبيل الفتاة وضربها حـدّ الإغماء، متوعداً الأبُ الشابَّ بمصير غير مأمون إذا لم يتعد، وفي ملاسناتٍ هاتفيةٍ بين الشاب والأب المتهور المريض سخط الأخير على الأول، يُسبّـهُ بأرذل الكلام وأوقحه، الشاب لفكره وتنوير ثقافته أراد التحدي وفعل، في وقت يعلمُ في قرارة نفسه أنه إذا سوّى جهة الفتاة وذاك من سابع المستحيلات تنتظرُهُ أعرافُ أخرى أشدّ وطأةً من جهة عائلته هو؛ التي لن تقبَـلَ لابنها إلا بفتاة شريفة عِـرقـاً، أما مَـن أحبها المسكين وضحى وصارع من أجلها أباها فمبـخوسَـةٌ في موروث أهله، فضّل صاحبُنا وهو بين المطرقة والسندان التراجع، في وقت وهذا غريبٌ أيضاً ظلت الفتاة تُـتلفِـنُ لـه يوماً بعد يومِ، بل وفي ليلة عرسِها، تطلبُهُ بالهروب معاً؛ ولأنه يعلم موقف أهله كم سيكون أصلبَ من موقف أبيها فضّلَ الدعوة لها بالسعادة، الأبُ طبعاً رفضَ بدافعِ المستوى المادي، وأهل الشابّ ولو وافقَ الأبُ افتراضاً سيرفضون الفتاةَ بدافع البُـعد العرقي، أليس هذا تناقضـاً غريبـاً وهدمـاً للقيم وتأزيـماً لنفوس الشباب؛ بل وتعكيـرَ صفو حياة بأكملها".
ب‌-     "بزاكورة أيضاً، أحبّت فتاةٌ شابّاً حـدّ الجنون، كما هو أيضاً، يلتقيان معاً، عاشا لـحْظاتِ رومانسيةً، بعيداً عن أعيُن أهلهما، ولمـّا تقدّم المغرم، طالبا يـدَ محبوبته من أبيها قامت الدنيا ولم تقعد، ولأن الفتاةَ من النوع الـمؤمن بـ" إمّـا أن أكونَ أو لاأكون" لم تتراجع عن موقفها رغم سخط الأب وتهديد الإخوة بالويلات، وأمام إصرارها وتعنثها المستمرّيْن يجتمع أعيان الأسرة ليقرّروا في النازلة، فخلُصوا إلى قرار جهنمي ينهي الحكاية، تفضّلَ أبو الفتاة وأخوها برميها ليلاً في بئرِ عميقةٍ وأرداها قتيلةً، النتيجةُ = اعتراضُ زواجها من شابٍّ ليس من عِرقها وعشرون عاما للأب والأخ سجنا نافذا. وتبقى شريعةُ العائلةِ: السجنَ والموتَ أهونان من أن ينكحَ أمازيغي فتاةً شريفةً ولو أنه وسيم وأبيض".

مسألةُ اللون بزاكورة لاتحضُـرُ بنفسِ الدرجة بطاطا؛ لأن الناس هناك يستظلّـون جميعهم قساوةَ مَـناخٍ جافّ، فحتى بعض "الشرفاء" منهم "عرقاً" يلتحفُون سُمرةً أخّاذةً ويبقى العرق هو المتحكم.
أما طاطا فكلها أيضاً تناقضاتٌ خطيرةٌ تحكم ظاهرةَ اختيار الشريكة، إليك الأستاذة سعاد قصتاها الواقعيتان.

أ‌-        " شابّان من طاطا تحابّا لحـدّ تـماهي روحيهما، لحدّ قطع الوعود بالزواج، يلتقيان مختبئان، يمارسان مـاظـنّا أنه تمهيدٌ لارتباطٍ آتٍ لامحالـةَ، دون أن يفكّـرا  أن هناك تعاليمَ  يمكن أن تعترض حـبّهما، عشقت الفتاةُ الشـابّ لسُـمرته وشخصيته بله مكانته، في غفلةٍ منها أنّ أمّها للون الأسمر هي كـارهةٌ، وبأزياء ماضٍ مزيّفٍ متشبثة. تقدّم الشابّ لأب الفتاة، طالباً يدها للزواج؛ ولأن الأبَ لايملكُ من أمر القرار ولو نسبة ضئيلة (صفر في المائة)، يعِـدُ بالقَبول ويطلبُ الانتظارَ من الشاب، ليأتي الـردّ أخيراً: موافقون جميعاً غير أن أمّـها لاترغبُ، أمّـا الفتاةُ فقد تصارعت لحدّ الرغبة في الكفر بشريعة أمها وخُزعبلاتها، بأنها لن تتراجع عن موقفها ولن تتنازل عن حبها، لمدة طويلة استعملت الأمّ جميع الطرق والـحِيَـلِ لإرغام ابنتها على التراجع، لدرجةِ التلويحِ بأمور غرائبية: (= إذا تمّ زواجك بذاك الشاب سأغادر البيت دون رجعـةٍ / إذا تـمّ الزواجُ سـأفكّ عـقد الأمومة وأنسى أنّـك ابنتي طيلة الحياة / لـن أسمح بأحفاد من رجل أسمر، ولو أن هذا الأسمر يفضُلُـها بالكثير الكثير، مستوى ونقاءً وأخلاقاً). تسريباتٌ وصلت للشاب تبدو أكيدةً أن الأمّ التجأت للسحر والشعوذة لقتل حبّ الفتاة للشابّ؛ إذْ بدا للأم أنّ البنت في أي لحظة يمكن أن ترتكب حماقةً؛ لأنها مغرمة به حقاً. الأغربُ في هذه الحكاية هو لـمّا يعلم بعض المقرّبين من الفتاة أنها متشبثة بالشاب لـحدّ تواجدها معه في بيت واحد قبل رفضِـه زوجاً، ومع ذلك لم يشفع لها هذا الفعل في تحقيق مرادها؛ الزواج ممن أحبّت. تسجّـلُ الحكايةُ تناقصات صارخة، مركزيةُ الأمّ وغيابُ دور الأبِ رغم اقتناعه بالشابّ ثم لامشكلةَ في أن تظلّ الفتاة بدون زواج إذا لم يطلُبها أحـدٌ من أقربائها أو من جنسها، والأولى طبعاً للقريب وإن هـو بعيدٌ، وإن حصـلَ أن أُرغمت على الزواج بالقريب تجد نفسها منه نافرة".
ب‌-        " فتاة من طاطا؛ ولأنها تابعت دراستها الجامعية، ومن قرية يُعـمرها جنس أمازيغي أبيض، تعرفت على شاب فرنسي الجنسية، تواصلا وقررا الزواج، تقدم الفرنسي بواسطـةٍ لأهل الفتاة، امتنع الجميعُ من الـجدّ حتى الإخوان عن الموافقة بزواج ابنتهم من "نْصراني" = هذه عبارتهم وهذا تعبيرهم، وفي مواجهة غير متكافئة وصلت درجةَ طرد الفتاة من المنزل والتلويح بالتبرؤ إذا تشبثت بموقفها، لكن الشخصية القوية التي تتمتع بها الأخيرة جعلت منها مُحارباً مغواراً، يتغلبُ على الجميع ويتجاوز الأعرافَ. بعد تعنتها شرع المقربون بتقديم تنازلات، مشترطين على الفرنسي أن يُعلنَ الشهادةَ، شرطٌ لم يكن وارداً في الأول؛ إذِ البداية تتطلب زوجاً أمازيغياً من نفس القبيلة، ولأن معظم سكان المغرب والجنوب هنا خاصة يشدون في الأمور التافهة والمظهرية، حفّظتِ الفتاة للفرنسي الشهادة ليلقيها ليس إلا ..! على مسامع الأهل وبحضور فقيهٍ، متفقةً معهُ أن المسألةَ مجرد تمويه، ولما يحصُل العقد يبقَيان حُرّيْـن، يبدو أن الفرنسي شفعت له شهادته وإضماراً شفع له مالُهُ رغم عدم كونه أمازيغياً وبعيداً عن القبيلة، ولو تقدّمَ طاطاوي الأصلِ لهذه الفتاة وأحبته طبعا ورغبته لَرُفِضَ من أهلها بدعوى لونه الأسمر؛ وإ ن كان مسلماً وليس مجرّد معلن عنه فقط والآتي أغربُ".

الحكايا كثيرةٌ أستاذة في مسألة البحث عن الشريكة في التربتين، طاطا وزاكورة، باختلاف الأسباب طبعاً، واقتصرتُ على هذه لمعاينتي لها وعلمي بأسرارها وغرائبها، ويظلّ الجهلُ والانغماسُ في الوهمِ بل والتناقضات الصارخة مايتحكم في أهلها. لم يستسغ الآباء أن زمانهم قد فات وأنّ لأبنائهم كما بناتهم الحقّ في الاختيار، وأن نُبلَ القيم لايعترفُ بما سطره التاريخُ من وقـائع حصلت أولم تحصل تدفع بأبناء اليوم إلى العيش في اختيارات آبائهم ولو دفع الأمرُ بالبنت إلى التعاسة وبالإبن إلى ارتداء زي حياة يسخُطُ عليها قبل ولوجها.
الأمّ التي رفضت لابنتها الارتباط بالشاب الذي أحبته، رغم رغبة الأب وباقي الأسرة بدافع اختلاف اللون؛ بل ورغم عذابات الفتاة الواضحة وثورتها ومرافعاتها المستمرّة تُظْـهرُ مـرضاً نفسياً تعومُ فيه هذه الأمّ، فمن حيث لاتدري تتمتع بسلطةٍ وهمية بغير حقّ، تجعلُ منها متفوقةً على الآخر؛ الذي يفضُلُـها واقعياً ومنطقياً، فانفلاتُ مفاتيح سُلطٍ حقيقيةٍ من يدها (= سياسية/ مادية/ ثقافية؛ أي مايجعلها متميزة وفقط)، غياب ذلك يجعل منها تتشبثُ مرضـاً بما تراهُ يحفظُ لها مـاء الوجه، في ظل واقعٍ لايرحـمُ أحـداً. ففي الوقت الذي لم تطأ قدمُ هذه الأم المدرسة طيلة حياتها؛ بل ولاتتقن غير لهجة لسانها الأصل، وهي ربة بيت ليس إلا، ومن أسرة فقيرةٍ، تجـدُ راحةً ومتعةً فيما تعتبرهُ تفوقاً، علماً أن اللونَ خُلِـقَ معها وليس امتيازاً حـصّلَـتهُ.
حبُّ السلطة والافتتانُ بالتفوق هو مايجعلُ المجتمع الجنوبي يركن في هذه الزوايا، وما يُضفي سُخـريةً على هكذا أوضاعٍ وجودُ نـماذجَ تُظهرُ بالملموس أننا في مجتمع وأمام عقلياتٍ، ليس فقط لاتؤمن بالقيم، إنما تطأ عليها وتعود بنا إلى عهود بدائية. فعندما تجد فتاةً  تشترك مع فتى، تحابّا طبعاً، بيتاً واحداً، طيلة أيام الجامعة، وهما يعلمان أن زواجهما غير ممكنٍ بتاتاً، وفي الأخير يُرمى بالفتاة بين أحضان قريبٍ، عبتـاً يستطيعُ أن يُطـهّرَها من مـاضٍ اختارته بنفسها أو بالمقابل دُفِعت إليه، فأيّ تفسيرٍ للمعادلة.
أيضاً وبإحدى قُرى طاطا لم تُعـر إحـدى الأسـر لطهارةِ دماءِ مَـنْ تفضّلَ لخطبةِ ابنتها أيّ اهتمامٍ لأنه أبيض اللون، وأيضاً رُغمَ أنف الفتاة التي لاتريده، ولو طرقَ باب أسرتها أسمرُ وإن تحابا معا وأرادا بعضيْهما لـرُفضَ، وتـمّ تزويجُها للأول وهو مجهول الأب، طبعا قادم من مدينة بعيدة، أليس هذا شدّاً في القشور، أما الجواهر، مع هؤلاء، فإلى جهنم.
شبابُ طاطا، ولأنهم عانوا الأمْرَ والأمَـرَّ هاجروا خلف جبالها، ليرتبطوا بفتياتٍ من نفس جنس مَـنْ طلبوها ورُفضوا في مدينتهم، فتيات هنّ أجمل وأفضل مستوى ثقافياً ومادياً ممن يتقاطع مع أبناء طاطا التربة. يحكي أحدُ الأساتذة من طاطا مولده قائلاً: "لم تشفع لي وظيفتي، لا ولا أخلاقي بالتفكير في الاقتران بمن أحببتها وأحبتني؛ ولأني أردت أن أظْهِرَ شـرَخَ التناقضات في جسد عوائل طاطا البيض – للتدقيق في الأمور، فهناك بعض العوائل تجاوزت تلك التعاليم البالية -، ذهبتُ إلى مدينة أكادير وتزوجت من فتاة، تفضُلُ مَنْ تجاورني في كل الأشياء، جمالا، ثقافة ووضعا ماديا، والعِرق طبعا مع من رفضني أهلها واحـد، أمازيغ.
لاأظن الحديث اليوم عن الديمقراطية والحداثة في المجتمع المغربي يجوز في وقت مازالت الأعراف ثم التعاليم تتحكم في العقليات السائدة.
إنها العنصرية، نعم، ومن يظن غير ذلك فلأنه غيرُ دارٍ بالأمور. إنها لعبة سياسوية، نعم، ومن يزعم غير ذلك فلأنه خارج الدائرة.
بالمغرب تستعمر العنصريةُ كلّ ترابه بأشكال مختلفة وتوابل متنوعة، فمَـنْ يُمارسُها بطاطا (= البيض الأمازيغ)، تُـمـارَسُ عليه إذا حـلّ بمكان آخـر (= بني ملال والناظور مثلا)، بدوافع طبعا واضحة، وحكاية الفتاة التي أُدرجت شهر يوليوز الفائت بإحدى المجلات الوطنية خير مثال لمـا رغبَ فتى أمازيغي فتاةً عربيةً من بني ملال، وبعد أن نشأت بينهما علاقة حب دامت سبع سنوات، فرفضه أهلها لأنه : "شْلْـحْ"، مرددا الأب بالحرف " لانزوج بناتنا للشْلُوحْ"، وحتى إذا كنتَ من "عرقٍ سامٍ" في زاكورة مثلاً وأنتَ تَـرفُضُ زواج ابنك أو ابنتك لعرق آخر من نفس المدينة، فأنتَ أيضاً مرفوضٌ وتُـمارَسُ عليكَ عنصريةٌ من وجه آخر من قِبَلِ أسرة راقية مثلاً تنتمي إلى عرق أقل شأناً في مخزونك الثقافي الوهمي، لكنه يفضلُكَ في مخزون عائلة الفتاة الناظورية أو الرباطية مثلاً.
    كل مايحصلُ من هذا القبيل ولأنه مغطى بـجهل أعمى، لاأراه بعيداً عن تسييس قديم، عرف صناعه كيف يتحكمون في مفاتيح لعبته، قاعدتها: "لنجعلهم يتصارعون فيما بينهم، ليتركوننا ننهب كما نشاء ، في غفلة منهم جميعاً".
نعم، وكيف لا وطاطا مثلا ترزح في تهميش مقصود وتعتيم إعلامي ممنهج، يغطي الفقرُ وضَعفُ البنية التحتية كـلَّ أرجائها؛ إذْ في الوقت الذي يجب أن تكثف الجهود لأجل النهوض بالمنطقة، بل والسعي خلف تمثيلات وزارية وبرلمانية و ... يبقى السكان – للأسف – يتصارعون في أمور تافهة، وإنْ هي في الأصل المنطلق لأي تغيير حقيقي، لكن دون أن يدروا فالسياسويون أرادوا لهم تلك الأشياء منذ عقود مضت.
نعم لبعض الانفلاتات من هذا أو ذاك، من هذه أو تلك، لكن القاعدة العامة لاتبشر بخير، ومن تـمّ تظل عـوائل بعينها ورسمها هـي مَـنْ تتناوبُ على مناصب وزارية وبرلمانية، ويبقى سكان طاطا وزاكورة مثلا يتشبتون بالأوهام وتضييع وقت كثير في ترّهات فارغة.
نعم لوجود انفلاتات من بعض الشباب في الظاهرة المتحدث عنها، ويكفي دليلا فتاة تثور على أهلها، دفاعا عن حبها، معلنة وبصوت عال " أحبّ فلان وأريد الزواج منه ولاعليكم التدخل في حياتي، فأنا راشدة بما فيه الكفاية".تكفي الثورة وإن فشلت المحاولة، وأحيانا تنجح كما في قصة المتزوجة بالفرنسي.
في ظل هذه التناقضات يظل ارتباط العروسين مشروعاً تخطط له الأسرة قبل أن يفكرا المعنيان بالأمر، دون أن نغفل أن وجود أي حسابات بين أسرتين ولو استوى الأمر في كل مناحيه ستجعل لامحالة الارتباط بين شابين متحابين من تلك الأسرتين مستحيلا، وإنْ لاذنب لهما في خلافات قديمة، أضف إلى ذلك وضع الأسرة التي ستعيش معها العروسة المنتظرة؛ إنْ كانت ممتدةً، وهذا أمر غالب في طاطا وزاكورة؛ فإن اعتبارات أخرى أكثر شدة تأتي في الحسبان، من قبيل، مَـنْ هي زوجة أخ العريس إن وُجد له أخ أو إخوان ؟، كيف هي طبائع أخت العريس، طبائع أمه ...؟ وهلم جرا، مما يعني أخيراً أن شيئا اسمه الزواج عن حب في التربتين يبقى بعيد المنال، اللهم بعض الاستثناءات التي لاتشكل القاعدة.
**    **      **       **     **
كيف يمكن السماح بوجود علاقة قبلية بين شابين، ليدرسا بعضهما البعض في ظل هذه العقليات البالية، إلا أن ما لايفطن له الآباء في هاتين التربتين هو أن مايتم خُفيةً وبعيداً عن الأعين يُـظْهِـرُ أننا أمام مجتمع متحرر خلف الكواليس.
أعرفُ أسرةً في طاطا، يظهر على زيّها التديّن بشكل لافت، أما الأخلاقُ والثباتُ فبهما تنعتُ فتياتها، في وقتٍ وفي غفلةٍ من الأهل يلتقي الشابّ بأحد بناتها لحب وقعا فيه معاً، ولما يطلبُ الشاب يدَ الفتاة يمتنع الأهل عن ذلك، بدعوى أنهم لايزوجون الفتاة إلا لمن هو من جنسهم، ألا تبدو المفارقة غريبة هنا، فتاة تعاشرُ فتاها ولمدة طويلة، ولما يرغب في الارتباط بها شرعاً يتم رفضُهُ.

المجتمع المغربي والأسر المحافظة فيه بوجه الخصوص ترى في العلاقة بين شابين مُقبلين على الزواج تمـظهرا غير أخلاقي، أمر يجني على الفتاة أكثر من الفتى إذا حصل.
-       ماذا تعرف عن فـلانة ؟
-       إنها تخرج كثيراً.
-       إذن لاتصلح للزواج.
لنلحظ إذن، هذه فقط تخرج كثيراً، ولو إلى مهمة ما، أما إذا كانت تخرجُ رفقة شاب رغبها ورغبته للزواج، يبحثان عن التفاهم بينهما فإنها توضع بين قوسين، ويحكم عليها مَـناخُ "الـحُومة" أنها لاتصلح للزواج.
الشباب، أغلبهم طبعاً، لهم يد طويلة في مثل هذه الحالات، لن أتزوج مَـنْ قبِلتِ مرافقتي  وبعيداً عن الناس، ناسياً هذا القائلُ أنه مَـنْ طلب منها ذلك، وتحت سيل – للأسف – من الأكاذيب والإغراءات، فلماذا في مثل هذه الحالات لانقلب الآية ونذهب إلى أن فلانة مادامت وثقت بي، بل وفعلت معي ماشئناه معـاً ألاّ أفِـرّ منها وأفرط فيها مهما يحصل.
فعلُ التربية في مجتمعنا المغربي يحتاج لكثير من الحفر وإعادة النظر، ولامجال للتكثير من المدونات والمواثيق في ظل جهل خطير يسِمُ آباءنا وأمهاتنا وكل ثورة من هذا وخاصة من تلك يجعل منها "وقِحةً" أو "ماكاتحشم"، يُخبرني من تقدّمَ لخطبة الفتاة التي أحبته وأحبها ورفضت أمها، أن فتاته لما تترافع مع أمها وتتخاصم تردد الأم: "مابقيتي تحشمي"؛ لأن الفتاة وبجرأة كبيرة تصرخ أمام أمها "أحب فلان وأريده ولن أتزوج غيره"، العبارة هاته كافية لتدفع بالأم إلى طرق أي باب لمحوها ولو تطلب الأمر مجالسة المشعوذين، ليس الكلام هنا من باب إيماننا بقدرة الشعوذة على قلب القلوب؛ إنما التخمين في ذلك من قبل الشاب أو الشابة والاعتقاد بأنه يؤثر كافٍ بجعل وقْعه أكثر نجاعة، فنعتقد أننا مسحورون والحال أننا نتوهم ذلك فقط.
تفضل الفتاة الجنوبية تواجدها مع من ترغبه زوجاً، وإن قبل إعلان الأسرة موافقتها، تفضل تواجدها معه في منزل واحد، على أن تسير أو تقف معه أمام الناس، ونفسيا فهي بفعلها الأول تهربُ من طقس وتعاليم لادخل لها بها.
أخطرُ مافي الأمر أن تلك الضغوط التي تُمارسُ على الفتاة، خاصة من قِبَلِ أهلها، بالأخص في مسألة اختيار شريك حياتها، كل ذلك يدفع بها إلى البحث عن لـحْظاتٍ عابرة وإن بين الجدران، بل قد يحصل وتتزوج مَـنِ اختاره الأهلُ وتظلُّ علاقتُها بالحبيب مستمرةً، لتحصُلَ الخيانة.
المجتمع المغربي وإن أكثروا على مسامعنا أنه قطع ويقطع مع ممارسات قديمة، ففي العُمق مازال يتشبث بماض مريض، هو الذي دفع به إلى أن يحتلَّ رتبةً متقدمةً في تجارة الجنس، كيف لا وفتاة تبلغ من العمر عقدها الثالث يمتنع أهلها تزويجها مـمّن اختارته واختارها، منتظرين قريباً لها يطرق الباب وقد لايأتي.
ماذا ننتظر من مثيلات هذه الفتاة غير البحث عن عاشق عابرٍ أو الوقوع في يأس و تحطيم من الصعب تجاوزهما.
يتحمل الأجداد والآباء مسؤولية جسيمة فيما وصلت إليه الأسر الشابة، وكل ماسبق بسطه بالمثال والرأي لهو الدافع من وراء كثرة ملفات الطلاق والخيانة في معظم محاكمنا القضائية.

ليس تعـصّباً من وجـهٍ مقـابلٍ انخرطنا في مثل هذه المقالات، إنما رغبةً في إثـارةِ مـاظـلَّ مـسكوتاً عـنهُ، وعَـرَفَ ابتعـاداً مقصوداً مِـنْ قِـبَـلِ باحثين كُـثُـر، ومِـنْ قِـبَـلِ جمعياتٍ تنخرطُ في مشاريعَ كبرى ناسيةً أن الدّاءَ الحقيقيَّ هو الذي يسكن المحيطين بها، وعلاجُ ذوي القربى من داء فـتّاك أولى من أيّ تفكير مشروعاتي ومن أيّ حديثٍ زائـدٍ عن الاستحقاقات الانتخابية أو ماشابه. هذه الفُسحَـةُ إذن مجـرّدُ بـدايةٍ لـمُقـاربات أخـرى من منظـوراتٍ علميةٍ تُفَـتِّتُ الظـاهرةَ وتَـتَتَـبَّعُ الحكايات الواقعية تلو الحكايات حتى نهاياتها ومعرفة مـآلاتها. 



محمد بوشيخة
قاص وناقد من جنوب المغرب
نُشـرت الدراسة بجريدة "عيون الجنوب"، عدد: 06، شتنبر: 2009م