الجمعة، 10 ديسمبر 2010

الـجابري، مفـكـراً ابستيـمولوجيـاً استثـنائيـاً .. موضوع الحلقة الخامسة من عمود "ضد التيار" .. جريدة عيون الجنوب



أولُ اثــنَـيْـن، من الــشـهر الفـائت، انتقلتْ إلى جـوار ربـهـا روحٌ عـقـلانيـةٌ رحْـبـة الآفــاق، تركـتْ بـصْـمـاتٍ جلى على امتـداد نصف قـرن تقـريبـاً، أسّستْ لـرؤيـةٍ منهجيةٍ ابستيمولوجيةٍ عميقةٍ، خلخلتِ الكـثيرَ من المفاهيـم و منـاهـج المقاربات الـتراثية للـتراث.
"الفـهـمُ الـتراثي للـتراث"، بنيـةٌ فـتّـتهـا المفـكرُ محمد عابد الجابري، رافـضـاً لـها؛ إذ تتـنافى والـرؤيـةَ النهـضويـةَ المبتغاة لـواقـعٍ عـربي مُــرٍّ مـخـاتل .. تفـكيـرٌ تـراثـيٌّ احـتفى متـبـنّـوهُ الإسـلامـويون بـموت الـروح الـفـذة في مـواقـع إلـكترونية كـثـيرة، وكيف لـهم لسـوء فـهمـهم وتكوينهم غـير ذلـك وهـو ضـد تيـارهـم.
"الانـفصـالُ عـن الـتراث عـن طريق الاتـصال بـه"، تـلك سنـةُ الـجابري الابستيمولوجيةُ، فـمن متنه الـثـرِّ "نحن والتراث"، مروراً بـمشروعـه الضّـخم "نقـد العـقل العربي" حتى "فـهـم الـقرآن الكريم"، كـلُّـها – وغـيرُهـا من كتبه كثـيرُ – نفـائـسُ قـرّبـتـنـا من التـراث، ودعـتنا إلى عـدم البـقاء عـنده تمـجيداً؛ إنّـما غـربــلــتُـهُ والاستـفادة منه، اسـتجابةً لـتحديـات الـواقـعِ الراهــن، فهـو الـقـائـل: "نقـد العـقـل جزء أسـاس وأولي من كـل مشـروع للنهـضة".
هــو الأمـازيغـيُّ – العربيُّ، مُـبـتكِـرُ مفـهـوم "العقل العربي المستقيل"، ابـنُ رشـد العصـر الحديث، ديـكـارتُ الـعـربِ. مـنْ يُـصـدّق رحيـلَـك وأنتَ بتـلك الـقـامة العالية ..؟، مـنْ يسـتشـعرُ غـيـابَك وأفـكارك أثـارتِ القـريبَ والبـعيدَ، اسـتـفزّت الماركسي والإسلامي والعـلماني ..!، مَـنْ يسـتطـع التنقيـصَ مـن شـأنِــك وأنتَ الـمـنـزّهُ عـن المصـالح السيـاسوية - المادية، مـردداً أكثـر مـامرّة "خـبـز وزيتـون ورحـمة من ربّ الـعالمين".
تـركتَ السيـاسةَ ممارسـةً؛ لـمّـا عـاينتَ زيفَ أهـلـها، وفـسـاد مـائـها .. نـظّـرتَ فيـها وأفـدتَ لـمّـا استشـعرتَ غيـابَ التفـكير العـميق في حـقـلهـا.
كـم يلهث الكـبارُ قـبـل الصغـار جـريـاً وراء الألقـاب والـجوائـز؛ ولأنـك ضـد التـيار رفــضْـتَ عـديـدَهـا (= جائزة الرئيس صدام حسين أواخر الثمانينيات + جائزة الشارقة سنة 2001م + جائزة العقيد معمر القذافي لحقوق الإنسان سنة 2002م + العضوية في أكاديمية المملكة المغربية مرتـيْـن + ...)، وقـبِـلتَ بعـضَـهـا (= جـائزة ابـن سينـا من اليونسكو 16 نونبر 2006م + جائزة بـغداد للثقافة العربية؛ اليونسكو 1988م + الجائزة المغاربية للثقافة؛ تونس مايو 1999م + ...).
"العـقـلُ العـربيُّ بـحـاجة اليوم إلى إعـادة الابتـكار"، نعم، وكيف لـعقـلانـيٍّ حقيقيٍّ أن يـخالـفك الـرأيَ فـي ظـلِّ انتـشـار الـتعـصُّب بين مثقفينا والتنابذ بين قبائلنا والتكـفـير عـلى عـواهـنه بين مللنا ونحلنا وفرقنا المستقوية بالنص والرأي ثـم الانـحطـاط  الرمزي والثقافي والتبـعية العميقة لـلآخـر (الغرب والماضي )..!؟.
صـدمـةٌ هـي لحـظـةُ افـتقـادِك .. إيـمانٌ؛ كان ومـا يـزال راسـخــاً بـأنـك روحٌ مـمـتدّةٌ سـتـظـل تسكـنُـنـا؛ بـأنّــك جَــبَـلٌ رصّتْ مـعـالــمَـهُ كتـبٌ تـجـعـلُ اسـمَـكَ، نـهـجَـكَ، عِـصـاميـتَـكَ، أخـلاقَـكَ، عـلـمَـكَ، بيـانَــك، بُـرهانَـك، عِــرفانَــك، مواقــفَـك، حفـريـاتـك مخـلّـدةً بيـننـا، وفيك صدق قول الشاعر ابراهيم طوقـان:
وما قهرَ الــموتَ القـويَّ سوى امـرئٍ ** يخـلِّـفُ بين الـنّاسِ علـماً مـخـلّـداً (= بتبديل "ذكـرا" بــ "علـماً") .. رحـمك الله يـاابــن فـجـيـج.

محمد بوشيخة
mljabri1979@hotmail.com
...................
نُـشر بجريدة عيون الجنوب، عدد: 15، يونيو: 2010م.